تصاعدت التساؤلات حول جدية التهديدات الأميركية بالانسحاب من الوساطة في الأزمة الأوكرانية الروسية، وذلك بعد تصريحات حول انزعاج البيت الأبيض من عدم إبداء الطرفين مرونة في المواقف.
وكان مسؤول بالبيت الأبيض قد كشف أن الرئيس دونالد ترامب يبحث جديا التراجع عن جهود وساطته في الحرب الروسية الأوكرانية، ما لم يبد أحد الطرفين مرونة إضافية.
فلماذا قد يتخلى ترامب عن دور الوساطة بهذه الأزمة؟ ومن وجهة نظر الخبير بالشؤون الدولية الدكتور بول ديفيس فإن ترامب يسعى لضمان التوازن والتقدم من الجانبين منذ بداية عهده في يناير/كانون الثاني، لكنه يواجه تحدياً كبيراً في عدم استعداد أوكرانيا للتراجع عن أراضيها، كما لم تغير روسيا مطالبها منذ بداية العملية العسكرية.
وفي ظل الوضع الراهن وجد ترامب نفسه عالقا بين الموقفين المتصلبين، ويأمل في تدخل الدول الأوروبية بشكل أكثر فعالية لاستئناف المفاوضات.
وكان ترامب قد تعهد عند وصوله للبيت الأبيض بحل الحروب الكبرى التي اندلعت في عهد سلفه جو بايدن، ومن أبرزها الحرب الأوكرانية الروسية والتي حمل بايدن مسؤولية اندلاعها.
وسبق لترامب أن حمل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مسؤولية استمرار الحرب وطالبه بتقديم مزيد من التنازلات، وشهدت العلاقة توترا كبيرا بين الطرفين، قبل أن تخف حدته لاحقا بعد أن عقد صفقات اقتصادية مربحة بين واشنطن وكييف.
ورغم التهديدات الأميركية بالانسحاب من الوساطة، إلا أن ديفيس يستبعد ذلك ويرى أنها تندرج في سياق السياسات التكتيكية التي يعتمدها ترامب في عقد الصفقات التجارية، وعليه فإنه سيواصل ممارسة الضغوط على كلا الطرفين.
ومع أن ترامب أظهر نوعا من الميل إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، إلا أنه مارس في أحيان عدة ضغوطات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وطالبه بتقديم تنازلات من جانبه لوضع حد للحرب مع أوكرانيا.
الانسحاب سيكون كارثة
لكن ماذا عن موقف أوروبا فيما لو نفذ ترامب تهديداته وانسحب من الوساطة؟ وهي التي ساندت أوكرانيا بحربها ضد بوتين بكل ما أوتيت من قوة، ولم تبخل بالدعم العسكري والمادي والمعنوي لكييف، وتكبدت في سبيل ذلك أعباء اقتصادية جمة انعكست على المستوى المعيشي لمواطنيها.
ومن وجهة نظر أستاذ العلاقات الدولية الدكتور حسني عبيدي فإن أي انسحاب أميركي من الوساطة سيكون كارثياً بالنسبة للدول الأوروبية وأوكرانيا، خاصة أن أوروبا تواجه صعوبة في توفير الضمانات الأمنية الكاملة، وتحديداً في المجال الجوي.
ويتفق الباحث السياسي والإستراتيجي رولاند بيجاموف مع الرأي القائل إن التهديدات الأميركية بالانسحاب من الوساطة مجرد تكتيك، فترامب يسعى للحفاظ على الهيمنة الأميركية، والوساطة بهذا الصراع تمنحه جانبا كبيرا من الهيمنة.
وبالنسبة لموسكو فإنها تتمنى انسحاب واشنطن، لأنها تدرك أن أوروبا لا تستطيع مقاومة روسيا في أوكرانيا بدون الدعم الأميركي، وفق بيجاموف.
وكانت الدول الأوروبية قد نجحت في تغيير الهندسة الدبلوماسية من خلال إقحام نفسها في المفاوضات بعد أن كانت تخشى من الثنائية بين بوتين وترامب على حساب المصالح الأوروبية، لكن هذا الإقحام يبدو أنه لم يرق لسيد البيت الأبيض الذي كان يريد احتكار أي صيغة للحل النهائي.
كما أن ترامب لم يخف ضيقه من تشجيع الأوروبيين للرئيس الأوكراني على رفض التنازلات الكبيرة، في حين يطالبون واشنطن بتقديم المزيد من الضمانات الأمنية والمساعدات العسكرية.
وكانت صحيفة تلغراف البريطانية قد نقلت عن مسؤولين غربيين أن ترامب يبحث مع الأوروبيين نشر قوات خاصة تضم متعاقدين أميركيين لإعادة بناء دفاعات أوكرانيا، وحماية مصالح بلاده.
وبحسب الصحيفة فإن نشر المتعاقدين الأميركيين في أوكرانيا يتعلق بخطة سلام طويلة الأمد يتواصل بحثها، وإنه سيشكل رادعا فعليا لبوتين.
لكن هذا الأمر لن تقبله موسكو التي أكدت مرارا رفضها وجود قوات أجنبية في الأراضي الأوكرانية.
كما أنه سيطرح إشكاليات قانونية للدول الأوروبية التي تحتاج للتفكير مليّاً بهذا الاقتراح، خاصة وكما أشار ديفيس فإن المتعاقدين العسكريين لن يكونوا في مواقع تسمح لهم بالاشتباك المباشر، بل سيركزون على تعزيز القدرات العسكرية الأوكرانية وتدريبهم على استخدام الأنظمة الأميركية والأوروبية.
القدرة على الإيلام
على أرض المعركة أظهرت أوكرانيا مقدرتها على ضرب نيوز عربي الروسي بنجاح، خاصة الفترة الأخيرة من خلال استهداف مصانع ومرافق النفط الروسية، مما أدى إلى اضطرابات في أنظمة الصواريخ ومصانع الطائرات المسيّرة.
ومن وجهة نظر كثيرين فإن الضربات الأوكرانية لمصافي النفط أهداف عسكرية مشروعة تؤثر على قدرات الجيش الروسي، بينما الرد الروسي استهدف أهدافاً مدنية.
وفي دليل على الألم الذي لحق بالروس جراء الضربات الأوكرانية، اعتبر ديفيس حضور بوتين قمة شنغهاي دليلا واضحا على تأثر الاقتصاد الروسي، وحاجتها لتعزيز الصادرات النفطية للصين وتقوية العلاقات مع الهند.
وفي تقييمه للوضع الراهن، شبّه ديفيس الوضع الراهن بما كان الأمر عليه خلال الحرب العالمية الأولى، حيث لا يستطيع أي من الطرفين التحرك بطريقة حاسمة ضد الآخر.
لذلك فإن الحل من وجهة نظره يكمن في تنازلات متبادلة، بحيث تقبل أوكرانيا بضياع شبه جزيرة القرم وتتقبل روسيا سيادة أوكرانيا مع ضمانات أمنية معينة.
لكن البعض يرى أن الرئيس الروسي قد يكون غير مستعد لأي صفقة سلام في الوقت الراهن، مفضلاً التوسع أكثر للدخول في مفاوضات من موقع أقوى، مما سيكلف الأوكرانيين والأوروبيين ثمناً باهظاً.