• Home  
  • ماذا يحدث في السجون السرية التي تسيطر عليها الاستخبارات الأميركية؟
- سياسة

ماذا يحدث في السجون السرية التي تسيطر عليها الاستخبارات الأميركية؟

“خلال نومي تراودني كوابيس، وكأنني ما زلت حبيس هذا المكان المروع، وما زلت مقيدا بالأغلال”. محمد أحمد بن سعود معتقل سابق في سجون تُشرف عليها سجون “سي آي إيه”. في يناير/كانون الثاني 2017، عرضت صحيفة “النيويورك تايمز” مقطعا مصورا يُظهر أجزاء مقتطفة من جلسات الاستماع الخاصة بدعوى قضائية استثنائية، رفعها ثلاثة معتقلين سابقون في سجون […]

“خلال نومي تراودني كوابيس، وكأنني ما زلت حبيس هذا المكان المروع، وما زلت مقيدا بالأغلال”.

محمد أحمد بن سعود معتقل سابق في سجون تُشرف عليها سجون “سي آي إيه”.

في يناير/كانون الثاني 2017، عرضت صحيفة “النيويورك تايمز” مقطعا مصورا يُظهر أجزاء مقتطفة من جلسات الاستماع الخاصة بدعوى قضائية استثنائية، رفعها ثلاثة معتقلين سابقون في سجون وكالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه”، جميعهم من جنسيات مختلفة؛ ليبي وتنزاني وأفغاني، لكن ما جمع بينهم كان التعذيب المروع الذي تعرضوا له جميعا على يد عملاء “السي آي إيه”، تحت ستار برنامج “الاستجواب المشدد”.

خلال جلسة الاستماع، روى المدعيان محمد أحمد بن سعود وسليمان عبد الله سالم كيف تعرّضا هما وأقرانهما للضرب المبرح والإيهام بالغرق وحُرموا من النوم لمُدد طويلة، وعُذبِّوا بأساليب شنيعة تركتهم يعانون من ندوب نفسية وجسدية ستلازمهم طوال حياتهم.

اقرأ أيضا

list of 2 itemsend of list

أما المدعي الثالث غول الرحمن فقد ناب عنه أقاربه في الدعوة القضائية التي سُوِّيت فيما بعد خارج ساحات المحاكم، إذ فارق غول الرحمن الحياة أثناء الاحتجاز من شدة التعذيب.

ما كان لافتا للانتباه أن المتهمَيْن الرئيسيين اللذين رُفعت الدعوى ضدّهما هما اثنان من الخبراء النفسيين الأميركيين، جيمس ميتشل وبروس جيسين، اللذان عملا لدى وكالة الاستخبارات الأميركية، وقادا برنامج التعذيب البدني والحرمان الحسي الذي استُخدم لـ “تحطيم السجناء نفسيا”.

بحسب الاتهامات الموجّهة لهما، فإن لم الطبيبين لم يكتفيا بما سبق، بل لجآ إلى بحث إمكانية استخدام العقاقير المخدرة للتلاعب بعقول المعتقلين، وهو برنامج بحثي منفصل، درس خلاله أطباء وكالة “سي آي إيه” سجلات التجارب السوفياتية القديمة الخاصة باستخدام العقاقير المخدرة على الأسرى والسجناء.

كما استعانوا بتجارب برنامج “إم كيه ألترا” سيئ السمعة والذي استعرضنا قصته في تقرير منفصل على صحفة أبعاد بعنوان “البرنامج السري المرعب الذي قادته الاستخبارات الأميركية للتلاعب بالعقول”.

إذ كان لهذا البرنامج باع طويل في استخدام العقاقير المخدرة مثل “إل إس دي” على البشر دون علمهم، وذلك من أجل تمرير برنامج “مشروع الدواء” الذي يُعد جزءا من رحلة طويلة خاضتها وكالة الاستخبارات الأميركية بحثا عن ما أسموه بـ”مصل الحقيقة” وذلك لاستخدامه على السجناء والمعتقلين.

ورغم أن “إم كيه ألترا” أُغلقت ملفاته رسميا عام 1973، فإن تجارب “التحكم في العقول” شقّت طريقها من عصر الحرب الباردة إلى ما سمّته أميركا بالحرب على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لتصبح في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين اللبنة الأساسية التي ستُبنى عليها وسائل التعذيب الأكثر رعبا في سجون الولايات المتحدة الأميركية.

السجون السوداء

تعتقد وكالة الاستخبارات الأميركية أن معتقليها يمتلكون -في الغالب- معلومات مهمة، ولهذا تسعى لاستخلاص ما في جوفهم من “حقائق” بطرقٍ غير تقليدية في الاستجواب، تشبه تلك التي رأيناها في الصور المسربة من سجن أبو غريب، لسجين شبه عارٍ، رأسه مغطى بقبعة مدببة، ويداه ممدودتان، تتدلى من ذراعيه أسلاك كهربائية.

سجناء أبو غريب تعرضوا للصعق الكهربائي والإيهام بالغرق والإذلال الجنسي (أسوشيتد برس)

تلك الصورة الشهيرة علَّق عليها الأكاديمي والكاتب الأميركي باري ساندرز في كتابه “اختفاء الكائن البشري: أرواح غافلة” الصادر عام 2009 قائلا: “أية فظاعة تلك حين نكون بحاجة إلى التذكر أن هذه الهيئة التي نراها أمامنا ليست مجرد شيء يسمى “محتجز لقضايا أمنية”، بل كيان بشري، ليس دمية محشوة للعرض، بل إنسان حي”.

حلَّل ساندرز في كتابه الإجراءات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن قائلا إنها أتت إلى العالم بفكرة “السجناء الأشباح”، سواء في سجن غوانتانامو في كوبا، أو سجن أبو غريب في العراق، أو سجن باغرام في أفغانستان.

وخلف جدران الرعب تلك، اتبعت وكالة الاستخبارات الأميركية طرقا مشينة لاستجواب المعتقلين البارزين، فيقول: “نعلم بين الحين والآخر عن تلك الأرواح التي تختفي من أولئك الذين يقاسون الاعتقال العنيف ويُبعدون إلى أماكن مجهولة كي يُعاملوا بوسائل لا يعلم عنها أحد شيئا”.

ففي شبكة من السجون السرية موزعة على أكثر من 54 دولة حول العالم، يطلق عليها اسم “المواقع السوداء” (Black Sites)، احتجزت وكالة الاستخبارات الأميركية معتقليها، ممن اعتبرتهم أسرى ذوي أهمية قصوى، وهي المواقع التي أصبحت فيما بعد ساحة جديدة للتجارب على البشر، حيث وُضع بها الأسرى دون محاكمات، وحُرموا من أبسط حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم، وكان كثير منهم لا يتحدثون اللغة الإنجليزية، ولم يعرفوا حتى التهم الموجهة إليهم.

هذه الممارسات ظلَّت طي الكتمان حتى عام 2014، عندما نشر مجلس الشيوخ الأميركي تقريرا مفصلا من 6700 صفحة رُفعت عنها السرية، يتناول أساليب التعذيب الوحشية التي اتبعتها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وما تضمنته من انتهاكات لحقوق الإنسان.

يذكر التقرير أن “سي آي إيه” تعاقدت عام 2002 مع الخبراء النفسيين، جيمس إي ميتشل وجون بروس جيسن، ودفعت لهم الوكالة مبالغ طائلة مقابل استخدام وتوظيف تقنيات جديدة للاستجواب المشدد، وتطبيق هذه الوسائل على الأسرى والسجناء المعتقلين في قضايا أمنية.

وقد شملت أساليب الاستجواب الحديثة هذه: الإيهام بالغرق، والحرمان من النوم، والتجويع، والتجريد من الملابس، والضوضاء البيضاء التي تعمل على تشويش إدراك المحتجزين وإرهاقهم نفسيا، ناهيك عن الاحتجاز في صناديق صغيرة وضيقة سُميت بـ”التوابيت”، حيث كانت تتسبب للمعتقلين برعب نفسي شديد وشعور بالعزلة والاختناق.

الأدهى والأمر هو ادّعاء الأطباء القائمين على المشروع أن الإيهام بالغرق وفَّر للسجناء راحة دورية من نوبات الحرمان من النوم التي كانوا يقضونها وقوفا لساعات، كما زعموا أن حشر المعتقل في صندوق احتجاز بحجم نعش وفَّر له ملاذا آمنا نسبيا من وسائل التعذيب الأخرى، مدّعين أن برنامج التعذيب الذي وضعوه بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية جاء “خاليا” من الآثار النفسية والجسدية طويلة المدى.

تُحيلنا هذه الادعاءات مرة أخرى إلى كتاب الأكاديمي الأميركي باري ساندرز، الذي أشار فيه إلى أنه وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، أصبح العراق وأفغانستان أبرز الأمثلة على الطريقة التي اتبعتها الولايات المتحدة الأميركية في الحط من شأن الأفراد الذين وُضعوا في خانة (الآخرين)، وكأنهم يشغلون مكانة متدنّية في ترتيب الأجناس البشرية، وذلك تمهيدا لتهيئة الرأي العام العالمي للتعامل اللا إنساني أو القتل الصريح لمَن اعتبرتهم أميركا من أعدائها.

تناول ساندرز حجج وزارة العدل الأميركية، التي عملت على تبرير التعامل القاسي والمهين للسجناء حسب وصفه، إذ تزعم الحجج تلك أن هذا التعامل كان مُنفَّذا تجاه أشخاص تشك وكالة المخابرات الأميركية بانتمائهم إلى تنظيم القاعدة، قائلا: “إن مسألة التعذيب بربرية، ويجب ألا نسمح لوزارة العدل بأن تُغيّب الناس مرتين؛ مرة بوصفهم سجناء، وأخرى بوصفهم متهمين بالإرهاب”.

هذه الحجج عدّها الكاتب الأميركي جزءا من عملية تآكل الجوهر الإنساني، التي عملت على تشويه القيم الإنسانية بداية من القرن التاسع عشر، فأصبح ما ومَن هو الإنساني محل تساؤل، والتعذيب والقتل الجماعي بات سهلا، حتى إن أعضاء وكالة الاستخبارات الأميركية -بحسب ساندرز- لم يروا في السجناء بشرا عند تعذيبهم.

مصل الحقيقة

تشير الوثائق التي رُفعت عنها السرية عام 2018، ونُشرت في تقرير مكوَّن من 90 صفحة بأمرٍ قضائي بعد معركة قانونية طويلة خاضها الاتحاد الأميركي للحريات المدنية أمام وكالة الاستخبارات الأميركية، تشير إلى أنه بين عامي 2002-2007، تولى مكتب الخدمات الطبية (OMS) إدارة برنامج “الاستجواب المشدد” الجديد، وهي هيئة تابعة لوكالة الاستخبارات الأميركية تدير الطواقم الطبية من الأطباء والممرضين والأخصائيين النفسيين، وقد قام المكتب بالإشراف على 97 معتقلا في 10 سجون سرية تابعة لـ”سي آي إيه”، وكانت مهمته الأساسية تتلخص في إبقاء السجناء على قيد الحياة.

أما السجين الذي أُجريت عليه أولى تجارب هذا البرنامج فكان يدعى “أبو زبيدة”.

قُبض على أبو زبيدة في مدينة فيصل آباد الباكستانية عام 2002، وأثناء ملاحقته تعرض لطلقٍ ناري، لكن وكالة الاستخبارات الأميركية أرادت الحفاظ على حياته لاستجوابه، اعتقادا منها أنه يمتلك معلومات حساسة عن تنظيم القاعدة، وفرضت الوكالة على أبو زبيدة عزلة تامة لقرابة 47 يوما حتى امتثاله للشفاء، قبل أن تبدأ مرحلة الاستجواب الأكثر عنفا، حيث تعرض لتعذيب مروع على مدار الـ24 ساعة، بعدما احتُجز في أحد السجون السرية بقاعدة عسكرية في تايلاند.

تكشف الوثائق أن أبو زبيدة قد تم تعذيبه باستخدام الإيهام بالغرق 83 مرة، وفي إحدى المرات كاد أن يفارق الحياة، فما كان من الطاقم الطبي إلا أن كتبوا في ملاحظاتهم أن “السجين كان مقاوما للتعذيب بالماء”، ولهذا هم بحاجة إلى وسيلة تعذيب أكثر شراسة لإجباره على الحديث.

بعد ذلك، احتجزوه عاريا وأدخلوه إلى صندوق أشبه بالتابوت لمرتين أو ثلاث في اليوم الواحد، وفي كل مرة امتد احتجازه لعدة ساعات، وعندما فشلوا في استخلاص أية معلومات منه، قال الأطباء إن السجين مقاوم للاستجواب بشكل مذهل وأصبح معتادا على الاحتجاز في “التوابيت” بحسب ما ورد في الوثائق.

ومن أجل كسر مقاومة أبو زبيدة، بدأ الأطباء في مناقشة استخدام عقار مخدر جديد، أطلقوا عليه اسم “مصل الحقيقة”، وهو جزء من برنامج بحثي حول العقاقير المخدرة أشرف عليه مكتب الخدمات الطبية عام 2003، تحت اسم “مشروع الدواء”، وفيه توصل الأطباء إلى إمكانية استخدام عقار”فيرسيد” (Versed) -وهو مهدئ ينتمي إلى فئة “البنزوديازيبينات”- في استجواب المعتقلين في قضايا أمنية، نظرا لتأثير هذه المادة على الحالة الذهنية، التي قد تُمكِّن عملاء الوكالة من كسر مقاومة السجناء واستخلاص المعلومات من عقولهم.

وبحسب الوثائق، توقف العمل على “مشروع الدواء” قبل التطبيق العملي على حالة أبو زبيدة، وذلك خوفا من التبعات القانونية المتعلقة بحظر إجراء التجارب الطبية على السجناء، ومن غير المعروف حتى اليوم ما إذا كانت وكالة الاستخبارات الأميركية قد استخدمت هذا العقار فعليا على المعتقلين البارزين في سجونها السرية أم لا، لكن الأكيد أنه كان أحد الخيارات المطروحة على الطاولة.

ورغم التعذيب الوحشي والتشويه النفسي، خلص فريق الاستجواب في نهاية المطاف إلى أن السجين أبو زبيدة كان صادقا منذ البداية، ولم يكن يمتلك أية معلومات قيمة عن هجمات وشيكة كما تكهَّنوا.

وقد وصف درور لادين هذه الوقائع في مقالٍ نشره في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018، وهو محامي مشروع الأمن القومي التابع للاتحاد الأميركي للحريات المدنية، قائلا إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أفسدت كل فرد أو مؤسسة ارتبط اسمها بها، وتحت رايتها خان علماء النفس التزاماتهم الأخلاقية، وتحايل المحامون على القانون لإضفاء صبغة قانونية على ممارسات التعذيب الوحشية لينجو المسؤولون من العقاب.

وفي يناير/كانون الثاني 2020، صعد عالم النفس جيمس ميتشل إلى منصة الشهود أمام إحدى المحاكم العسكرية في خليج غوانتانامو في كوبا، واصفا الأساليب المختلفة التي استخدمها في تعذيب الرجال أثناء استجوابهم، وكانت تلك جلسة استماع تمهيدية تنظر في إجراءات إنزال عقوبة الإعدام لخمسة متهمين في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وقد اعترف ميتشل بممارسة التعذيب بنفسه في سجن سري ببولندا، قائلا إنه مارس الإيهام بالغرق عشرات المرات على المعتقلين، وضربهم بالجدار وعمل على تجويعهم وتجريدهم من ملابسهم، كما حرمهم من النوم لأيام وهدَّد أحد المعتقلين بقتل ابنه.

ومن جهتهم طالب محامو الدفاع عن المتهمين أثناء الجلسة باستبعاد أي اعترافات انتُزعت منهم تحت التعذيب، سواء في استجوابات وكالة الاستخبارات الأميركية أو تلك التي قادها مكتب التحقيقات الفيدرالي.

ورغم الاعترافات المروعة التي أدلى بها جيمس ميتشل، لم تتخذ الحكومة الأميركية أي إجراءات لمقاضاة أي فرد أو مؤسسة تابعة لوكالة الاستخبارات الأميركية ممن شاركوا منهجيا في انتهاك الحظر القانوني القاطع للتعذيب.

أما ما يثير مخاوف المنظمات الحقوقية، هي المساحة المجهولة التي لم يكشف عنها بعدد حول القصص والمآسي التي تجري في السجون التي تخضع لسلطة وإشراف الأجهزة الأميركية، والتي تسعى دائما لإظهار صبغتها الأخلاقية إعلاميا، لكنها صبغة تكشف الأيام والوقائع المسربة زيفها العميق.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من نحن

“نحن في موقع نيوز عربي نولي اهتمامًا كبيرًا بتجربة المستخدم، حيث يتم تحسين المحتوى والعروض الترويجية بناءً على تحليلات دقيقة لاحتياجات الزوار، مما يسهم في تقديم تجربة تصفح سلسة ومخصصة.”

البريد الالكتروني: [email protected]

رقم الهاتف: +5-784-8894-678