وهو في نظر آخرين عمل بديهي يحقق الرؤية الصهيونية القائمة على ادعاء عودة شعب إلى أرضه التي يمتلكها بوعد إلهي، وهي لا تحتاج إلى أي تبرير آخر.
وطبيعي أن بين هذا وذاك، من يرى أن فرض السيادة على مناطق في الضفة والقطاع، هو مجرد تعبير عن حاجة إسرائيل “الأمنية” إلى مناطق عازلة، أو مجرد “تدفيع ثمن” لكل من يحاول استهداف الدولة العبرية.
ورغم أن فكرة فرض السيادة على أوسع قدر ليس فقط من أرض فلسطين وإنما كذلك من أي أرض عربية، راودت الصهاينة المؤسسين منذ بداية حركتهم إلا أن البراغماتيين بينهم انطلقوا من مبدأ القبول بما يتوفر، وانتظار الفرصة للتوسع لاحقا.
وقد ظهر ذلك بوضوح في الصراع بين أنصار حاييم وايزمن، وديفيد بن غوريون في مواجهة أنصار زئيف جابوتنسكي عند أول فصل بين فلسطين وإمارة شرقي الأردن. إذ رفض جابوتنسكي اقتطاع شرقي الأردن من “الوطن القومي” اليهودي، وحصر الأمر بفلسطين الغربية.
وتصاعد الخلاف كذلك بعد إقرار مشروع التقسيم في 1947، حيث رفض قسم من اليمين واليسار الصهيوني قرار التقسيم، وأيده بن غوريون وأنصاره، وفق مبدأ لخصه بعبارة: “النقب لن يهرب منا”.
وفي 1956 بعد احتلال قطاع غزة، وسيناء أمر بن غوريون، وفق وثائق إسرائيلية سرية، بضم الأراضي التي احتُلت، معتبرا إياها أراضي “مملكة إسرائيل الثالثة”.
وقد جاء ذلك في مذكرة بعث بها إلى رئيس أركان الجيش حينها، موشيه ديان، والتي عنت مضاعفة أراضي إسرائيل أربع مرات. لكنه سرعان ما تراجع عن هذا القرار، بفعل ضغوط دولية.
ومنذ الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967، والصراع على أشده بين أنصار فرض السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنصار التفاوض بشأنها. وقد وُضعت مخططات كثيرة لتسهيل الأمر عبر خطط تهجير الفلسطينيين، أو محاولة إنشاء ما عُرف بالتقاسم الوظيفي مع الأردن.
ولكن بعد فوز اليمين بالحكم 1977، بدأت الصورة في التغير خصوصا لجهة توسيع الاستيطان، ومحاولة منع أي صيغة سياسية تلغي سيطرة إسرائيل على الضفة والقطاع. وفي أفضل الأحوال وافقت إسرائيل- مناحيم بيغن- على فكرة الحكم الذاتي للفلسطينيين بعيدا عن أي مفهوم للسيادة.
فقد بقيت السيادة شأنا إسرائيليا في أي مفاوضات مع مصر، وغيرها. وكان بيغن قد أعلن فرض السيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية، غير آبه بالموقف الدولي.
ولكن وفي كل الأحوال، كلما اشتد عود اليمين في إسرائيل، تعاظمت الدعوات لفرض السيادة، والقضاء على مبدأ حل الدولتين.
وبلغ اليمين ذروة قوته في تشكيل الائتلاف الحكومي الحالي الذي قاده المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، وضم سموتريتش، وبن غفير، وشاس، والأحزاب الحريدية، والذي أسمي “ائتلاف اليمين التام”.
ومع احتلال كل من سموتريتش وبن غفير مكانتهما السامية في الحكومة، بتشجيع ورضا من نتنياهو، اكتمل عقد فرض السيادة، وصار الخلاف ليس على مبدأ فرض السيادة، وإنما على متى وأين وكيف.
تهديدات تصطدم بواقع
قبل أيام بلغ الوضع حدوده القصوى. وقرر رئيس الحكومة بنيامين عقد اجتماع حكومي أخير لمناقشة مسألة فرض السيادة في الضفة والقطاع. وتحضر كثيرون لعرض مواقفهم التي سبق أن عرضوها علنا في الجدالات الواسعة التي دارت منذ شهور.
وكان كثيرون يرون أن إسرائيل نتيجة للظروف الإقليمية والدولية صارت أقرب ما يكون لفرض السيادة. فقد سبق أن قطعت الحكومة اليمينية وعودا فارغة بشأن تطبيق السيادة في الضفة عدة مرات في الماضي.
وهذه المرة، رأت أنه ربما نشأ وضع سياسي يسمح بذلك. وسبق ذلك عقد نتنياهو نوعا من منتدى سياسي ضم عددا من القيادات السياسية سبق الاجتماع الحكومي الرسمي.
وبحسب “يديعوت”، ضم المنتدى، علاوة على نتنياهو، مساعده المقرب الوزير رون ديرمر، المسؤول عن العلاقات مع الولايات المتحدة ودول الخليج، ووزير الخارجية جدعون ساعر، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
حضر النقاش أيضا رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي وسكرتير مجلس الوزراء يوسي فوكس. وخلال النقاش، أعرب ديرمر عن دعمه للخطوة، حيث نقل عنه قوله: “ستكون هناك سيادة في يهودا والسامرة، والسؤال هو: أي جزء منها؟”.
وكان ديرمر قد أعرب عن موقف مماثل قبل أسبوعين، في نقاش وزاري موسع آخر، بعد أن أثار الوزراء شتروك وسموتريتش وليفين هذه القضية وضغطوا من أجل المضي قدما في هذه الخطوة حتى قبل انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول، حيث تعتزم دول عدة الاعتراف بدولة فلسطينية.
وفي المنتدى ناقش الوزراء مسألة ما إذا كان ينبغي تطبيق السيادة فقط على الكتل الاستيطانية، أو على جميع المستوطنات، أو على كامل المنطقة “ج”، أو ربما على المناطق المفتوحة فقط أو غور الأردن.
طُرح تساؤل آخر حول ما إذا كان ينبغي الترويج لهذه الخطوة كرد فعل على الاعتراف بدولة فلسطينية، أو حتى قبل ذلك، كإجراء وقائي.
وفي المنتدى حلل الوزير ساعر الوضع السياسي لإسرائيل في العالم، وأشار إلى وجود معارضة أوروبية لهذه الخطوة، مما قد يؤدي إلى مزيد من التدهور في العلاقات بين إسرائيل والدول الأوروبية. وقد صرّح بذلك من منطلق مهني، بغض النظر عن موقفه المبدئي من قضية السيادة.
أما الوزير سموتريتش فيضغط منذ فترة طويلة لدفع هذه القضية إلى الأمام، وقد هيأ أتباعُه في إدارة المستوطنات بوزارة الدفاع البنية التحتية المهنية من خرائط ومسوحات ميدانية لهذه الخطوة.
في الواقع، عندما يفكر سموتريتش في التهديد بحل الحكومة، على سبيل المثال بسبب اتفاق محتمل مع حماس، فإنه يأخذ في الاعتبار أيضا فرصة فرض السيادة.
وكان اليمين الإسرائيلي بكل مكوناته قد استبق الأمور ومرر قبل بدء عطلة الكنيست قرارا يقضي بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية بأغلبية 71 عضو كنيست.
ورغم أن نتنياهو آثر على الدوام الميل للجانب التصريحي في كل ما يتعلق بالسيادة بعيدا عن التورط في إشكاليات دولية، فإنه حاول عبر قرار الكنيست وعبر زياراته للمستوطنات في الضفة تشجيع فرض السيادة بالعموم ومن دون تخصيص أو التزام.
ويعتقد كثيرون أن نتنياهو، إذا ما أراد البقاء في الحلبة السياسية وخوض الانتخابات المقبلة، فإن فرض السيادة سيكون أحد أبرز وعوده الانتخابية المقبلة.
أميركا في الصورة
رغم أن الموقف الأميركي الرسمي، قبل إدارة ترامب، كان يرفض على الدوام فرض السيادة الإسرائيلية، ويترك الأمر للمفاوضات، إلا أن سيطرة الصهيونية المسيحية على إدارة ترامب غيرت الموقف.
فترامب ووزراؤه يرون أن فرض السيادة هو قرار على إسرائيل وحدها أن تتخذه وليس لأميركا أن تتدخل. وبديهي أن هذا يتعارض مع القانون الدولي ومع الشرعية الدولية، وكفيل بأن يخلق تناقضات حادة بين إسرائيل وأقرب جيرانها العرب.
وواضح أيضا أن فرض السيادة يتنافى حتى مع ما يسمى بالاتفاقات الأبراهامية التي رعاها ترامب، والتي كان بين شروطها وعد أميركي إسرائيلي بعدم إقرار أي ضم في الضفة الغربية.
وقبل أيام وبالتزامن تقريبا مع عقد الاجتماع الإسرائيلي لمناقشة فرض السيادة، قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو: “ما ترونه الآن بشأن الضفة الغربية والضم ليس نهائيا – إنه أمرٌ قيد المناقشة بين عدة جهات في إسرائيل، ولا أنوي إبداء رأيي في ذلك اليوم”.
وفي الشهر الماضي، صرّح السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، لصحيفة واشنطن بوست بأن الضم الإسرائيلي سيكون “قرارا إسرائيليا”. وأوضح قائلا: “السابع من أكتوبر/تشرين الأول غيّر كل شيء”.
وهكذا تركت أميركا إسرائيل تفعل ما تشاء ليس فقط في الضفة والقطاع وإنما في كل لمنطقة العربية، وهذا هو المعنى الحقيقي لتصريح المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان توم براك الذي سوغ تغيير إسرائيل حتى لحدود سايكس- بيكو.
وواضح أن صمت أميركا على هذا الأمر خلق في إسرائيل انطباعا بفقدان الدولة العبرية “الرجل الراشد”، الذي يمكن أن يضبط حركة إسرائيل، ويمنعها من ممارسة منهج “رب البيت جُن”.
ربما لهذا السبب اضطر نتنياهو، بعد أن أمر بعقد اجتماع حكومي للبحث رسميا في أمر فرض السيادة، لإزالة هذا البند من جدول الأعمال قبل ساعات قليلة من عقد الاجتماع. وتندر وزراء بأن الاجتماع اضطر فقط لمناقشة أفعال صبية التلال من المستوطنين في الضفة.
وكان الجنون الإسرائيلي قد بلغ ذروته بدعوة وزير المالية، سموتريتش، نتنياهو إلى فرض السيادة في الضفة الغربية على ما لا يقل عن 82% من أراضيها وترك 18% فقط للفلسطينيين. وقال: “أقصى مساحة – الحد الأدنى من العرب”.
وأضاف سموتريتش: “يستند الإجماع الواسع على السيادة إلى إدراك ضرورة منع أي تهديد وجودي من التسلل إلى داخلنا. لقد حان الوقت لتطبيق السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة، وإنهاء تقسيم هذه الأرض الصغيرة”.
وتابع: “الدور السياسي للسيادة هو ضمان عدم قيام دولة إرهابية عربية. يجب منع قيام دولة فلسطينية، وعدم السماح بإقامتها. لذلك، لا كتل استيطانية، ولا منطقة “ج” ولا سيادة جزئية. كل هذه تَترك بقية الأراضي للعدو، مما يسمح له بإقامة دولة تتركنا داخل حدود أوشفيتز”.
وكانت الخطوة الأولى لجنون سموتريتش إعلانه عن البناء في منطقة E1، التي تُعتبر حيوية للتواصل الإقليمي بين مختلف الأراضي الفلسطينية.
ولاحظ كثيرون أنه إذا قرر نتنياهو عدم كبح جماح شركائه الطبيعيين والمتطرفين، فسيصبح في نظرهم حفار قبر العلاقات الإسرائيلية العربية، التي عمل عليها رجال الدولة والدبلوماسيون الإسرائيليون على مدار 76 عاما من وجود دولة إسرائيل.
وهو طبعا لم يكتفِ بذلك بل قدم مؤخرا خطته الشاملة للاحتلال والضم والانتصار السريع عبر الحرب والحصار والتجويع والتهجير. وسموتريتش لا يتحدث فقط باسمه، بل يعبر عن مكنونات اليمين الإسرائيلي برمته الذي لا يجد في المجتمع الإسرائيلي من يقف في مواجهته.
وتشمل الخطة ضم قطاع غزة وطرد أهله، وهو يؤكد أن نتنياهو “يفهم منطق الخطة” ويعمل لتحقيقها.
وبضمن خطة سموتريتش القضاء التام على فكرة الدولة الفلسطينية على أساس أن” الموافقة على خطط البناء في E1 تدفن فكرة الدولة الفلسطينية، وتُواصل التحركات العديدة التي نقودها على الأرض في إطار فرض خطة السيادة الفعلية التي بدأنا تنفيذها مع تشكيل الحكومة. بعد عقود من الضغوط والتجميدات الدولية، نخرق الاتفاقيات، ونربط معاليه أدوميم بالقدس. هذه هي الصهيونية في أبهى صورها – بناء واستيطان وتعزيز سيادتنا على أرض إسرائيل”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة نيوز عربي.