في ظل التطورات المتسارعة في تقنيات الزراعة الحديثة، يسعى المزارعون جاهدين للوصول إلى محاصيل ذات مظهر مثالي وحجم كبير، باعتبارها عوامل حاسمة في تسويق المنتجات الزراعية وتحقيق الأرباح. ومن بين الوسائل المتبعة لتحقيق هذا الهدف، يأتي استخدام الهرمونات النباتية والمركبات الكيميائية المعروفة بمنظمات النمو كأداة فعالة لتعزيز الإنتاج وزيادة المحاصيل.
ورغم الفوائد الظاهرة لهذه الممارسات، إلا أن الواقع يكشف عن أضرار بيئية وصحية مقلقة، وفقًا لما توصلت إليه دراسة علمية حديثة أجراها باحثون من جامعة بغداد، ونقلتها “نيوز عربي”.
💥 مخاطر بيئية وتلوث متزايد
أظهرت الدراسة أن بقايا منظمات النمو قد تتراكم في التربة والمياه المحيطة، ما يؤدي إلى تلوث بيئي يمتد تأثيره إلى الأنظمة البيئية المحيطة، مثل الكائنات الدقيقة والنباتات المجاورة. كما يمكن أن تبقى هذه المواد الكيميائية داخل المحاصيل نفسها، ما يعرض المستهلكين لمخاطر صحية حقيقية.
⚠️ تأثيرات على صحة الإنسان
وأشارت نتائج الدراسة إلى أن التعرض المتكرر والمطول لبقايا هذه الهرمونات، خاصة إذا تجاوزت الحدود المسموح بها من قبل الجهات التنظيمية، قد يؤدي إلى اختلالات هرمونية خطيرة لدى الإنسان، تشمل مشكلات في الخصوبة وتغيرات في الأنسجة الحيوية.
🧪 دراسات تؤكد المخاطر: كلورميكوات كلورايد نموذجًا
وفي دراسة أخرى منشورة في مجلة Ecotoxicology and Environmental Safety، تم تسليط الضوء على مادة كلورميكوات كلورايد المستخدمة في الزراعة، والتي تبين أن لها تأثيرًا مباشرًا على إنتاج القلويدات، وهي مركبات كيميائية حيوية تدخل في تركيب بعض الأدوية والعلاجات الطبيعية.
وبينما أظهرت الدراسة أن المادة ساعدت في زيادة المحصول الزراعي، فإنها في المقابل أثّرت سلبًا على جودة المركبات الفعالة داخل النبات نتيجة تثبيط بعض الإنزيمات الحيوية، مما قد يقلل من القيمة الدوائية للنباتات الطبية المستخدمة في الطب التقليدي.
🔍 نحو توازن بين الإنتاج والسلامة
شدد الباحثون على أهمية تحقيق توازن دقيق بين زيادة الإنتاج الزراعي والحرص على جودة وسلامة المنتجات الغذائية. كما دعوا إلى استخدام تحليل الجينات كوسيلة لفهم تأثير الهرمونات على النباتات، بما يتيح تطوير بدائل أكثر أمانًا وصديقة للبيئة.
🌱 مستقبل الزراعة المستدامة
في ظل هذه المعطيات، يزداد الإلحاح لإعادة النظر في أساليب الزراعة الحديثة والبحث عن حلول تكنولوجية مبتكرة تضمن الإنتاج الوفير دون الإضرار بصحة الإنسان أو البيئة. وقد تمثل هذه الدراسات نقطة انطلاق نحو نهج زراعي أكثر استدامة يعتمد على المعرفة العلمية لا على الكمية وحدها.

هرمونات أم منظمات نمو نباتية
اختلف العلماء حول تسمية هذه المواد، فبينما يرى بعض الباحثين أنها “هرمونات نباتية” لأنها تُنتج داخليا بكميات صغيرة، يفضل آخرون مصطلح “منظمات نمو” لأن تأثيرها قد يكون داخليا أو خارجيا، وتشمل المركبات الطبيعية والصناعية المستخدمة في التحكم بالنمو الزراعي.
ويتفق الخبير في الأمن الغذائي الدكتور فاضل الزعبي -في تصريحات للجزيرة نت- مع أن مصطلح “الهرمونات النباتية” ليس دقيقا تماما من الناحية العلمية، والأصح أن يُطلق عليها “منظمات النمو النباتية” لاختلاف آلية العمل وكون الهرمونات في الحيوانات تُفرز من غدد متخصصة وتنتقل عبر الدم إلى مواقع تأثيرها، بينما في النباتات، يتم إنتاج منظمات النمو في أماكن متعددة وتنتقل بوسائل فيزيائية أو كيميائية داخل الأنسجة.
ويضيف إلى ذلك عدم وجود جهاز دوري متخصص في النباتات وفي الكائنات الحية الأخرى، وتنتقل الهرمونات عبر جهاز دوري مثل الدم، لكن في النباتات، تتحرك منظمات النمو بآليات أخرى مثل الانتشار أو النقل عبر الخشب واللحاء، بالإضافة إلى إمكانية التأثير بجرعات خارجية، ويمكن للنباتات أن تستجيب لهذه المركبات سواء كانت طبيعية أو صناعية، لذا يتم تصنيف بعض المواد الاصطناعية ضمن “منظمات النمو” حتى لو لم تكن نباتية المنشأ.
ويقول المستشار الزراعي المهندس عمران الخصاونة -في تصريحات للجزيرة نت- إن الهرمونات النباتية هي مواد كيميائية طبيعية تنظم عمليات النمو والتطور في النباتات، حتى لو بتركيزات منخفضة جدا. وتلعب هذه الهرمونات دورا مهما في تنسيق عمليات مثل الإنبات، والإزهار، والإثمار، واستجابات النبات للظروف البيئية.
ويمكن تصنيف الهرمونات النباتية إلى مجموعتين رئيسيتين: محفزات النمو ومثبطات النمو. إذ تعمل الأولى على تحفيز عمليات النمو والتطور مثل الاستطالة الخلوية، وانقسام الخلايا، وتحفيز الإزهار والإثمار، بحسب الخصاونة.
أما الثانية (مثبطات النمو)، فيقول الخصاونة إنها تساعد على التحكم في عمليات النمو، وتلعب دورا مهما في استجابة النبات للظروف البيئية غير الملائمة، ومن أهمها حمض الأبسيسيك، ويلعب دورا في تنظيم سكون البذور ومنع الإنبات المبكر، بالإضافة إلى تحفيز إغلاق الثغور عند التعرض للجفاف، مما يقلل فقدان الماء ويحافظ على رطوبة النبات، وأيضا تعزيز استجابة النبات للإجهادات البيئية، مثل الملوحة والجفاف والبرودة، وتنظيم عمليات شيخوخة الأوراق وتساقطها.

أثر تراكم الهرمونات النباتية على الزراعة والمياه الجوفية
تشير الدراسات في هذا النطاق إلى أن الاستخدام المفرط للهرمونات النباتية يمكن أن يؤثر سلبا على صحة النباتات والبيئة. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة تأثير الهرمونات النباتية على إنبات ونمو بادرات الشعير تحت ظروف الجفاف أن تراكم الهرمونات بتراكيز عالية قد يكون مثبطا لعملية الإنبات، مما يؤثر على نمو النباتات.
بالإضافة إلى ذلك، تشير بعض التوجهات البحثية إلى أن الإفراط في استخدام الهرمونات قد يلحق الضرر بالنباتات نتيجة عدم تجاوبها مع الهرمون، مما ينعكس عليها سلبا.
مع ذلك، يؤكد الخبراء أنه لا توجد معلومات محددة عن تأثير تراكم الهرمونات النباتية على المياه الجوفية في المصادر المتاحة، إذ يُعتقد أن الاستخدام السليم للهرمونات النباتية، وفقا للتوجيهات الفنية، لا يؤدي إلى تراكم ضار في البيئة أو التأثير على صحة الإنسان. ومع ذلك، من المهم مراعاة التأثيرات المحتملة على صحة النباتات والبيئة عند استخدام هذه المواد.
ويقول الخصاونة -في حديثه للجزيرة نت- إن الاستخدام المفرط للهرمونات النباتية، يتسبب في تغيرات بنمو النباتات وإنتاجية المحاصيل، كما أن الإفراط في استخدام الأوكسينات والجبريلينات قد يؤدي إلى نمو غير طبيعي في المحاصيل، مما يجعل النباتات ضعيفة وأكثر عرضة للانكسار أو الأمراض.
ويضيف أن زيادة استخدام “السايتوكينينات”، التي تعد من أشهر أنواعها، يؤدي إلى إنتاج أوراق كثيفة دون نمو مناسب للجذور، مما يقلل من كفاءة امتصاص الماء والعناصر الغذائية، ويتسبب الاستخدام غير المتوازن “للإيثيلين”، وهو هرمون نباتي آخر شهير، في تسريع نضج الثمار بشكل غير متجانس، مما يؤدي إلى تلف المحصول قبل الحصاد.
ويتسبب الإفراط في الهرمونات في انخفاض جودة المحاصيل، حيث تؤدي التغيرات غير الطبيعية في نمو النباتات إلى انخفاض جودة الثمار من حيث الحجم والطعم والقيمة الغذائية، وقد تؤدي زيادة الهرمونات إلى تشوهات في الأزهار والثمار، مما يقلل من قيمتها التسويقية بالإضافة إلى:
- زيادة الحاجة إلى المبيدات والأسمدة، حيث إن النباتات التي تنمو بسرعة زائدة قد تصبح أكثر عرضة للأمراض والآفات، مما يتطلب استخدام المزيد من المبيدات الحشرية والفطرية.
- بعض التأثيرات غير الطبيعية على الجذور قد تقلل من امتصاص العناصر الغذائية، مما يدفع المزارعين إلى زيادة استخدام الأسمدة الكيميائية لتعويض النقص.
- تدهور خصوبة التربة، حيث يؤدي تراكم الهرمونات الصناعية إلى تأثير سلبي على نشاط الكائنات الدقيقة المفيدة، مما يقلل من خصوبة التربة على المدى الطويل.
- قد تسبب بعض المركبات الكيميائية تغيرات في بنية التربة، مما يقلل من قدرتها على الاحتفاظ بالمياه والعناصر الغذائية.
وعن أثر الهرمونات على المياه الجوفية، يوضح الخصاونة أن الاستخدام المفرط للهرمونات النباتية قد يؤدي إلى تسربها إلى المياه الجوفية عبر مياه الري أو مياه الأمطار.
وفي التربة الرملية أو عند الإفراط في الري، تزداد الفرص لوصول هذه الهرمونات إلى الطبقات العميقة من التربة. وهذا التسلل قد يؤدي إلى تلوث المياه الجوفية، مما يشكل تهديدا للبيئة ويضر بالموارد المائية.
كما أن بعض الهرمونات الصناعية تتحلل ببطء شديد في التربة، مما يجعلها أكثر عرضة للتراكم في المياه الجوفية على المدى الطويل. وبالتالي، فإن تأثيرات تلوث المياه الجوفية قد تستمر لفترات طويلة وقد تسبب مشاكل بيئية وصحية خطيرة.
تنظيم استخدام الهرمونات
تسعى العديد من التشريعات الدولية إلى تقليص استخدام الهرمونات الكيميائية في الزراعة وتعزيز الممارسات المستدامة. ومن أبرز هذه التشريعات توجيه الاتحاد الأوروبي رقم (2009/128/EC)، الذي وضع إطارا لتنظيم استخدام المبيدات والهرمونات في الزراعة وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة.
وفي عام 2016، أصدرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) مجموعة من المبادئ لإدارة المبيدات والهرمونات بشكل آمن، كما قامت منظمة الصحة العالمية في 2017 بمناقشة المخاطر الصحية المرتبطة بهذه المواد، داعية إلى البحث عن بدائل آمنة.
إضافة إلى ذلك، تركز اتفاقية روتردام التي صدرت في 1998، ودخلت حيز التنفيذ في 2004 على تنظيم التجارة الدولية للمواد الكيميائية الخطرة، بما في ذلك بعض الهرمونات المستخدمة في الزراعة. كما تهتم اتفاقية بازل لعام 1989 بإدارة النفايات الناتجة عن استخدام الهرمونات الكيميائية في المجال الزراعي.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، يفرض قانون حماية جودة الغذاء لعام 1996 مراجعة صارمة لضمان سلامة الغذاء من الأثر المتبقي للمبيدات والهرمونات.
وعلى الصعيد العربي، هناك بعض المبادرات والتشريعات التي تسعى لتنظيم استخدام الهرمونات الكيميائية في الزراعة وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة، رغم أن التشريعات العربية قد تكون أقل شمولية مقارنة بالممارسات الدولية.
وفي بعض الدول العربية، مثل مصر والأردن، يتم تطبيق قوانين صارمة لضمان سلامة الغذاء، والتي تشمل المراقبة الدقيقة للأثر المتبقي للمبيدات والهرمونات في المنتجات الزراعية. وتقوم هذه الدول بتطبيق المعايير الدولية في فحص مستويات الهرمونات في المواد الغذائية.
رغم هذه الجهود، تبقى التحديات قائمة في العديد من البلدان العربية في تطبيق هذه التشريعات بفعالية، وقد تكون الحاجة ملحة لتطوير وتنفيذ قوانين أكثر صرامة للحد من استخدام المواد الكيميائية في الزراعة وتعزيز الزراعة المستدامة.