مَن مبلغ الأعراب أني بعدهم
جالستُ رسطاليسَ والإسكندرا
وسمعت بطليموسَ دارسَ كُتْبه
متملكاً متبدياً متحضرا
ولقيتُ كلّ الفاضلين كأنما
ردّ الإلهُ نفوسَهم والأعصُرا
فهو لقي هؤلاء الموتى وجالسهم وسمع منهم عبر الكتب التي طالعها.. ونجد هذا المعنى كذلك عند بورخيس في قوله إن الكتاب امتدادٌ للخيال وللذاكرة وللحلم. إن الكتب تؤنسنا لأنها تحمل أنفاسَ الذين كتبوها وأثرَ أرواحهم.
وفي تاريخ الإنسانية، ارتبط الكتاب بالأنس والخلود، يقول مونتين في المقالات إنه يحبّ الكتب لأنها تكلمه دون حرج، وتمنحه صحبةً لا يجدها في البشر. وهذا المعنى موجود عندنا في الثقافة العربية القديمة وقد أشار إليه الجاحظ في البيان والتبيين بوصفه الكتاب بأنه أنيسٌ في الوحدة وصاحبٌ في الغربة.
كلُّ كتابٍ هو يد ممدودة من مؤلفه، يعبر بكَ الزمن، ويجلسك إلى جواره في غرفة لا جدران لها. قال طه حسين في الأيام: “كنتُ إذا صحبني كتابي لم أعد أشعر بوحدتي، لأن معي من يحدثني ويؤنسني”. فكلما شعرتَ أنك غريب فابحث عن كتاب، ففيه وطنُك.

الكتب أيضاً تخلق مجتمعاً غير مرئي بين القراء، ففي دراسة حديثة نشرتها جامعة أوكسفورد وجدت أن “الأشخاص الذين يقرؤون بانتظام لديهم شعور أقوى بالانتماء والقدرة على التعاطف مع الآخرين”. لذلك فالكتاب ليس مجرد حروف لكنه شبكة من الأرواح.
ثم إن صوت الكتاب ليس صدىً للمؤلف فحسب، بل هو أيضاً صوت القارئ وهو يفسِّر ويعيد بناء النص داخله، كما قال إدوارد سعيد في تمثيلات المثقفين إن القراءة ليست عملية سلبية، فالقارئ يعيد خلق النص ويمنحه حياةً ثانية.
فكل كتاب إذن رحلة مزدوجة: المؤلف يمضي بكَ إلى حيث لم تكن، وأنت تعيد تشكيل تلك الرحلة بما تحمله في داخلك.
الكتاب أيضاً وسيلة للمقاومة الداخلية، كما يرى المتنبي، إذ يقول:
أعزُّ مكان في الدُّنا سرجُ سابح
وخيرُ جليس في الزمان كتابُ
وقد كتب فيكتور هوغو في البؤساء أن الكتب هم الأصدقاء الصامتون الذين لا يخونون؛ وهي عبارة تحولت إلى مثل عالمي. ومثلُها قولُ القائل:
لنا جلساء ما نملّ حديثَهم
ألبّاء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من رأيهم علمَ من مضى
وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
بلا مؤنة تُخشى ولا سوءِ عشرة
ولا نتّقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت هم موتى فلست بكاذب
وإن قلت أحياءٌ فلست مفنّدا

وهذا كثير في ثقافتنا العربية، ونجد عند ابن حزم في طوق الحمامة أن “أفضل ما يعالج به الهمّ مطالعةُ الكتب”. هذه النصوص، عربيةً وغربية، تدل على أن صوت الكتاب كان عبر العصور ملاذاً للبشر في أوقات الضيق.
من جهة أخرى، يتيح الكتاب ما لا يتيحه الخطاب الشفهي إذ يُتيح الديمومة، فيختزن أفكار المؤلف ويتركها مفتوحة لزمن آخر. كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في الكتابة والاختلاف إن الكتابة تؤسس حضوراً يتجاوز غياب المؤلف. وهكذا تتحول القراءة إلى لقاء مع من رحلوا لكنهم تركوا أثرهم ليظل صوتهم حياً.
ولصوت الكتاب بعد حسيّ أيضاً؛ رائحة الورق، ملمس الصفحات، إيقاع الجمل، فقد وجدت دراسة في جامعة برن السويسرية أن التفاعل الحسي مع الكتب المطبوعة يزيد من ارتباط القارئ بالنص ويعمّق الذاكرة طويلة المدى. لذلك ظل الكتاب الورقي، رغم الثورة الرقمية، محتفظاً بسحره الخاص.
ثم إن الكتب لا تصرخ، لكنها تغيِّر. لا تدّعي، لكنها تبني في داخلك مدناً جديدة. هي أصواتٌ منخفضة، لكنها تشبه مياها جوفية تتسلل مخلفة الخصب في باطن الأرض. فكلُ صفحة تطرق وجدانكَ طرقاً خفيفاً، وكل اقتباسٍ يترك فيك أثراً يشبه وشماً غير مرئي.
فأيها القارئ المطالع، إذا شعرتَ يوماً أنك غريب، أو كنتَ في بلد لا أحد يعرفك فيه، أو أصابك الصمت حتى ضاق صدرك، فابحث عن كتاب فإنه ليس سلعة ولا قطعة ديكور، إنه وطن متنقل. وإذا فتحت الكتاب فتحت نفسك للعالم، وفتحت العالمَ لنفسك. هذا هو صوت الكتاب الذي لا يخبو، مهما تغيَّرت الأزمنة.
وقد قلتُ في ديواني الأول أيام الدراسة في القاهرة:
أحنُّ إلى بوحٍ سُحيراً ولَقيةٍ
إليها مجاباتُ البعاد تُجابُ
وممّا يروق النفسَ مجلسُ خَلوةٍ
نديماي فيهِ قهوةٌ وكتابُ.