ومع ذلك ظل جزء كبير من النظام العربي يراهن على الطمأنة اللفظية والوساطة الأميركية وعلى خطوط حمراء لم يكن لها وجود عملي.
وهكذا انتقلنا تدريجيا من سلام مشروط بالانسحاب إلى سلام بلا شروط، ثم إلى سلام يعرف ضمنيا بأنه خضوع لترتيبات القوة..
من هذا المنطلق، فإن المشهد الممتد من غزة إلى الدوحة ليس مجرد سلسلة من الأحداث العابرة والمفصولة، بل هو اختبار لطريقة قراءتنا للواقع، فالخريطة في المخيال الإسرائيلي تتسع لتتعامل مع دول المنطقة كفضاء حيوي مفتوح لإعادة التشكيل كلما تيسر الظرف.
من لم يدرك هذا التحول، لم يفهم طبيعة إسرائيل اليوم، إذ أصبحت القاعدة أن الحق يقاس بالمدى الذي تصل إليه بطائراتها وصواريخها، فمن استطاع كبحها فليفعل، ومن لم يستطع فعليه أن يتأقلم.
وإذا كانت هذه اللغة تحسب، عند كثيرين، انحرافا أخلاقيا عابرا لحكومة متشددة قد تتبدل، فإن العودة إلى نصوص المؤسسين ومتون الأيديولوجيا الصهيونية تكشف أن المسألة أعمق من ذلك.
إنها رؤية بنيوية صلبة تقدم “الاستثناء اليهودي” كحقيقة فوق سياسية. من زئيف جابوتنسكي، صاحب نظرية “الجدار الحديدي” التي تستبطن القوة الساحقة كخيار يسلب العرب الأمل في مواجهة المشروع الصهيوني، إلى ديفيد بن غوريون الذي اعتبر القبول بالتقسيم تكتيكا مرحليا على طريق الاستحواذ الكامل؛ ومن الحاخام تسفي كوك وتلامذته الذين جعلوا من الصهيونية الدينية أيديولوجيا متكاملة تقدس “أرض إسرائيل” المتخيلة وتتعامل مع الاستيطان والزي العسكري باعتبارهما رسالة إلهية؛ إلى جيل نتنياهو وسموتريتش وبن غفير الذي ترعرع على فكرة أن “أرض التوراة”، من النيل إلى الفرات، كلها حق تاريخي ومآل حتمي للدولة اليهودية.
هذه الرؤى التوسعية لم تعد حبيسة الكتب والكنس بل تحولت إلى سياسات على الأرض، مع تراكم تفوق عسكري وتكنولوجي وسياسي واستثمار في الهشاشة التي نخرت الإقليم.
إذ أصبح نتنياهو يعلن بوضوح، وبدون أي حذر، التزامه برؤية “إسرائيل الكبرى”، ويتحدث عن توسيع “نيوز عربي الأمني” ليشمل جغرافيات واسعة على تخوم المشرق والمغرب، بدعوى المطاردة الاستباقية لتهديدات لا تتوقف، في سياق يستعيد مفهوم “الفضاء الحيوي” النازي ونظريات تفكيك الدول إلى كيانات صغيرة، وإحياء خطط تقسيم المنطقة إلى “قبائل وإمارات”، كما صاغها الدبلوماسي الإسرائيلي عوديد ينون، وتدوير أطروحات النظر إلى الأردن “كوطن بديل”، وإخضاع مصر وتفكيك جيشها وتطويعها في سردية “شرق أوسط جديد”، يحتاجه أمن إسرائيل لكي يتنفس.
لفهم هذا الثبات في السلوك الصهيوني، يجب النظر إلى البنية الفكرية التي تغذيه، لقد أعاد المشروع الصهيوني تشكيل الذات اليهودية الحديثة على أساس أن الأرض حق تاريخي لا يقبل القسمة، وأن إسرائيل استثناء فوق القانون، وأن الجماعة اليهودية مقدسة ومهددة دائما، وتحتاج إلى حماية استباقية.
في الداخل تُستحضر التوراة كأداة للتعبئة والتجييش، وفي الخارج يعقلن الخطاب السياسي بلغة علمانية مرنة، ووراء ذلك جهاز معرفي وإعلامي يشتغل على المدى الطويل، من المدرسة إلى الجامعة، ومن السينما إلى الإعلام ومن المنبر السياسي إلى خطاب الحاخام.
على مستوى التنفيذ، تعتمد إسرائيل إستراتيجية متدرجة لقضم المحرمات والخطوط الحمراء. تقوم باختبار السقوف قبل الانتقال إلى الخطوة التالية. فإذا لم يأتِ رد مكافئ، تتحول السابقة إلى قاعدة جديدة.
ما يجري اليوم في غزة من إبادة مثال صارخ على ذلك، فبالتدريج صار القتل إجراء إداريا، والتهجير خيارا لوجيستيا، والحصار والتجويع أداة ضغط ممنهجة.
وفي الضفة يستمر القضم والضم والتهويد بخطى متدرجة وثابتة، بينما يستدعى إرث الحاخام الصهيوني مائير كاهانا الذي يقدم وصفة جهنمية لتفجير المسجد الأقصى والتخلص من الفلسطينيين جميعا بوصفهم عقبة أمام نقاء الدولة اليهودية.
وفي سوريا، ولبنان، تدار الجبهة بسياسة ابتزاز متواصل عبر ضربات متكررة مشفوعة بشرعية مدعاة قوامها “الردع المتجول”، وبمثل ذلك تدار فصول الاشتباك مع إيران واليمن، وصولا إلى قصف تونس وقطر. إننا ازاء خطوات محسوبة تتجاوز الخطوط الحمراء تدريجيا لتثبيت قاعدة “التجاوز بلا كلفة”، ومع إدارة بالنفس الطويل تحولَ كل خرق إلى واقع اعتيادي.
يضاف إلى ما سبق، التعامل مع المنطقة كفضاء قابل للتقسيم على أسس طائفية وعرقية متى خدم ذلك هندسة الهيمنة؛ وهنا يلتقي المشروع الصهيوني مع مشاريع الهيمنة الأميركية في “اتحاد وظيفي”، ذلك أن الأيديولوجيا التوسعية الصهيونية لا يمكن لها أن تترجم واقعا عمليا بدون عوامل وموضعية، ومن أهم هذه العوامل، الولايات المتحدة ذاتها.
ما يقوم به الكيان اليوم ليس عملا ذاتيا، بمقدار ما هو تنفيذ لإستراتيجية أميركية هدفها السيطرة على الشرق الأوسط (غرب آسيا) في وجه تكتل القوى الأخرى ضده.
فالولايات المتحدة تريد وضع اليد على الثروات الطبيعية (النفط والغاز) وتمتين هيمنتها على الممرات المائية. وما يقوم به الكيان اليوم هو لخدمة هذه الإستراتيجية الأميركية، دون توريط الولايات المتحدة في صراع مباشر مع الصين، وروسيا، أو أي من قوى المنطقة.
فالهيمنة الأميركية تمثل مشروعا لإدارة فوائض القوة على نحو يبقي الإقليم قابلا للاستخدام، وقد مثلت إسرائيل، في هذا المشروع، أكثر من حليف، لقد كانت وما زالت حاملة طائرات ثابتة فوق اليابسة، وأداة ضغط واستدعاء متى احتاجت واشنطن إلى تعديل سلوك نظام هنا، أو ابتزاز قرار هناك، عبر سياسة “التسويغ والإدارة”، قوامها عقوبات انتقائية وتسليح مشروط وفيتوهات مكرورة، وأدوات ارتهان اقتصادي وأمني وعسكري، واتفاقات تمنح صفة “تاريخية”، وهي تركِب اندماجا غير متكافئ وتهمش أصل الصراع، و”فوضى خلاقة” تقاسمت نتائجها الكارثية خرائط العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، واليمن، وانتهت إلى شيطنة أي مقاومة أو استقلال، أو بارقة نهضة محتملة.
غير أن هذه البنية لا تعمل في فراغ؛ إنها تحتاج إلى بيئة عربية قابلة للاختراق. وقد رأينا في المرآة القاسية للسابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاه، كيف بدا الجسد العربي والإسلامي ضعيف المناعة، وكيف بدت إسرائيل كجرثومة تعرف كيف تتعايش وتمتص الطاقة، وتعيد تدوير الأزمات لصالح أجندتها.
ورغم التعاطف العالمي المتزايد مع الحق الفلسطيني، لم يترجم هذا الزخم إلى إستراتيجية عربية أو إسلامية، بل طغى الخطاب الإنساني المعزول عن أدوات القوة، وجرى في بعض الأحيان لوم الضحية ومحاصرة المقاومة إعلاميا، ومد بعضهم الاحتلال بشرايين حياة اقتصادية – ومنهم من فعل ذلك عسكريا بشكل مباشر أو غير مباشر- وكأن التاريخ بدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولا يرى قبل ذلك سبعة عقود من احتلال وإحلال وتطهير؛ وهكذا ضاعت لحظة كان يمكن أن تترجَم إلى قرار عربي وإسلامي يرفع كلفة العدوان، ويحول الزخم العالمي إلى مكاسب سياسية ملموسة.
وغزة اليوم تقف حجر عثرة أمام هذا المشروع التفكيكي، فرغم الثمن الفادح الذي تدفعه، أثبتت أن المشروع الصهيوني ليس قدرا محتوما.
وإسرائيل إذ تمضي في سحق غزة، ترسل رسالة ردع لبقية الإقليم، إما القبول بها سيدا مطلقا، أو مواجهة دمار شامل. والخطر يكمن حاليا في أن نجاح إسرائيل في إخضاع غزة سيجعل الضفة والقدس وفلسطينيي الداخل في مرمى “الحسم”، وسيحفز إسرائيل على توسيع حدودها شمالا وشرقا، وربما دعم حروب أهلية، وتقسيم دول كبيرة كالعراق، وسوريا ومصر، وليس الخطر ببعيد عن تركيا، وإيران.
قد يقول قائل، إننا نراهن على الوقت، وإن المشروع الصهيوني هش وقابل للانهيار السريع بفعل عوامل داخلية، فلماذا الاستعجال؟!؛ وهو كلام يجانب الصواب، فالصحيح أن قوة إسرائيل حقيقية متعددة الأبعاد، قوامها تفوق تقني وعسكري، ومرونة سياسية في الخارج مع تصلب أيديولوجي في الداخل، وشبكة مصالح وتخادم وظيفي مع الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، وقدرة عالية على إدارة الزمن الطويل.
لكن هذا كله لا يجعل من إسرائيل قدرا تاريخيا لا يقاوَم، إذ تبقى نقطة ضعفه في تناقضه البنيوي، فهو مشروع توسع استعماري خارج السياق التاريخي، يستند إلى عقيدة دينية لا تقبل التنازل، ودولة تريد أن تكون طبيعية وفي الوقت نفسه استثنائية، وهنا يتكشف أن خط الدفاع الأول ضدها ليس باللجوء إلى القانون الدولي، بل ببناء قوة مقابلة تعيد تعريف التكلفة لأي عدوان، بل وتستعيد زمام المبادرة لمواجهة الخطر الصهيوني.
وحتى نبني هذه القوة، لا بد من الاعتراف أولا بأن البيئة العربية تعاني خللا بنيويا عويصا، فالدولة العربية الحديثة ورثت عن الاستعمار بيروقراطية متضخمة على حساب المجتمع، تقصي المواطن عن السياسة والقرار، وفشلت في خلق منظومة تعليم حديثة تتجاوز التلقين الذي يثبط التفكير النقدي، في حين فشل الفقهاء في تجاوز الجمود الديني الذي حول الفقه إلى شعائر بلا أخلاق عمران، وغاب عن المجتمع الوعي التاريخي، وعلق في وعي زائف يعيد تدوير الهزيمة بوصفها قدرا لا فكاك منه.
يضاف إلى ذلك الطائفية والعرقية والغرائزية السياسية، وأزمة الإعلام والخطاب الديني والسياسي ورواسب “الربيع العربي”، التي حولت القضية المركزية إلى شأن ثانوي، بينما تعطلت التنمية واستنزفت الدولة الوطنية، وتحول القمع إلى سياسة أصيلة، وعجزت المعارضات عن النضج، وفشلت في التغيير أو خلق بدائل حقيقية.
وفي المجال الأوسع استفحلت أزمة الثقة العربية، خصوصا في تجلياتها الأحدث، من تفاعلات “الربيع العربي” وانعكاساته على العلاقات العربية- العربية، والعربية – الإسلامية، ومن جراح العراق إلى سوريا، ومن التوجس مع إيران وتركيا إلى حساسيات الحدود بين أكثر من بلد، ليسود منطق “لا أحد يجازف وظهره مكشوف”، التي تحولت إلى عقيدة شلل عام.
ويضاف إلى ذلك، أن بعض الأنظمة العربية بنت عقيدتها على معاداة أية فكرة “جامعة” أو “وحدودية” وتعاملت مع فكرة “الوطن العربي والإسلامي”، الذي يضم القسم الأكبر من مليارَي مسلم غالبيتهم من الفقراء، على أنها خطر يهدد مصالحها ونفوذها.. حيث رفعت شعار محاربة الإسلام السياسي كشماعة من أجل ترسيخ مفهوم “الدولة القُطرية في مواجهة مشروع الأمة”.
وكل ذلك جعل مهمة إسرائيل أسهل في التحكم بالمسرح، واستثمار الانقسامات حتى ينضج مشروعها، بحيث لا يعود هناك حاجة إلى عبقرية خارقة لاختراق المشرق والمغرب.
إذا كان لا بد من جملة تعيد ترتيب عقلنا السياسي، وتضع اليد على موضع الورم قبل أن تقترح دواءه، فهي بالاعتراف، أولا، بأن التناقض الرئيسي في هذه المنطقة ليس مع “الإسلام السياسي”، ولا مع “الاختلافات المذهبية”، ولا مع “فائض الأيديولوجيا”، بل مع المشروع الصهيوني الإحلالي والتوسعي الذي صاغ ذاته على قاعدة القوة وإعادة رسم الخرائط.
وثانيا، أن الولايات المتحدة ليست حكما محايدا، ولا وسيطا ولا ضامنا، بل الراعي العضوي لهذا المشروع، والغطاء السياسي والأمني والاقتصادي لتمدد وظيفته، وأن الرهان على مظلة أميركية تمنع السقوط وهْم إستراتيجي.
وثالثا، أن الركون إلى ترتيبات “أبراهامية” تقدَم بوصفها اختصارا لطريق السلام ليس سوى هندسة إذعان غير متكافئ، تؤجل جوهر الصراع ولا تحسمه.
إن الخروج من حلقة العجز هذه لا يمكن مواجهتها بمفردات الاستنكار الأخلاقي وحدها، ولا بإحالات إلى قانون دولي أنهكته حالات الاستثناء، بل ببناء استجابة على مقياس التحدي، وهنا يستقيم استدعاء نظرية “التحدي والاستجابة”، كما صاغها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، “فالأمم حين تتعرض للمخاطر الكبرى ويكون توازن القوى في غير مصلحتها، تعود إلى مخزونها وإرثها الحضاري في محاولة لاستنهاض قدرتها على مواجهة التحدي”.
وهذه المواجهة تستدعى هنا باعتبارها معيارا لتشكيل المصفوفة المضادة لمثلث التحدي الذي لخصه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي: التجزئة، والتبعية، وإسرائيل.
فالتجزئة تبقي كل دولة وحدها في مواجهة تحدي المشروع الصهيوني ومآلاته، والتبعية تخنق القرار، وتحبط أي فرصة للنهوص أو الاستقلال، وإسرائيل تستثمر في الاثنين لتحصد “شرعية” الوقائع.
أما الاستجابة فتقوم على مثلث نقيض: وحدة وظيفية تحيد التناقضات الثانوية وتستثمر بالمشتركات التاريخية والحضارية للأمة العربية والإسلامية أمام الخطر الوجودي، واستقلال يحرر السياسة والقرار ويؤسس للنهوض الذاتي الذي يستثمر بالإنسان والعمران، ويعدل ميزان القوة لصالحه، وتحشيد للطاقات في مشروع حقيقي قوامه المواجهة الشاملة مع المشروع الصهيوني، ينتقل من رد الفعل إلى المبادرة.
ذلك كله يفضي إلى نتيجة عملية، إذ لا يمكن تأسيس مشروع نهضوي من دون الاعتراف بأن الصهيونية خطر لا يهدد فلسطين وحدها، بل يطاول المنطقة ككتلة تاريخية وثقافية وسياسية. ليس لأن إسرائيل جيش قوي فحسب، بل لأنها مشروع وظيفي فوق إقليمي يعمل على هندسة الإقليم بتفاصيله، ويستثمر في انقساماته، ويعيد تعريف حدوده ومعانيه في اللحظة التي تتوافر فيها القابلية الداخلية.
ومثلما لا تبنى مواطنة من دون سردية جامعة داخل الدولة تشد العصب وتحشد الطاقات، كذلك لا يبنى مشروع إقليمي من دون تسليم بأن ثمة “أمة عربية” بالمعنى الثقافي-التاريخي الواسع، تتسع لغير العرب، تحديدا تركيا، وإيران، في روابط الجغرافيا والدين والتاريخ والثقافة المشتركة، وتمنح الإقليم أسباب التعاون والأمن الجماعي.
لا مشروع ينجح إذا أنكر المشتركات الكبرى التي صنعت هذه الجغرافيا عبر قرون، ومن دون هذا المعنى الجامع ستبقى دولنا جزرا متباعدة، تستهلكها تناقضات محلية، فيما يقرر غيرها خرائط المستقبل.
وحتى لا تبنى شرعية جماعية فوق شرعية وطنية مختنقة، فهذا المشروع يتطلب ثورة وعي شاملة داخل كل دولة، في التعليم والبحث العلمي، والإعلام، والخطاب الديني والسياسي، ويستبطن الاعتراف بالخطر الوجودي الذي تمثله الصهيونية، ويحشد موارد المجتمع والدولة في مواجهته، عبر تحرير طاقات الشباب وإصلاح العقد الاجتماعي داخليا، لأن نظاما يفشل في مواجهة الخطر الوجودي، ولا يعبر عن إرادة شعبه في التحرر من الهيمنة، سيظل مشكوكا في شرعيته، ومعرضا للتداعي عند أول اختبار.
وفي ذات الوقت لا يمكن لنظام أن يواجه شعبه، ويتوقع أن ينتصر في الخارج، لأن الاستبداد والفساد هما الحليفان الأفعلان للمشروع الذي نواجهه.
كما أن الطائفية والقبلية والعشائرية ستظل قنابل موقوتة، ما لم يتم طمأنة الأقليات وتكريس المساواة في بوتقة وطنية تتحشد في مشروع نهضوي عابر للتناقضات الثانوية، فالدولة العادلة وحدها قادرة على تحويل التنوع إلى مصدر قوة، وهذه الدولة لا تبنى بمرسوم فوقي، بل بإطلاق المجال السياسي وربط الشرعية بصندوق الاقتراع وكفاءة الخدمة العامة.
على مستوى المنظمات الإقليمية، ليس مطلوبا الاكتفاء بالرثاء لمؤسسات مثل الجامعة العربية، أو منظمة التعاون الإسلامي، بل يجب إعادة تأسيسها لتتحول من لجان رمزية يتنافس أعضاؤها على بيانات الإدانة والاستنكار، إلى منصات قرار ملزمة، بإحياء معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتوسيعها لتضم قوى إقليمية مثل تركيا، وإيران، وحتى باكستان.
وفي موازاة ذلك يجب أن يحسم التردد الذي يحيط بالقوة العسكرية؛ لأن من يريد تجنب الحرب عليه أن يتحضر لها، ومن يريد سلاما فعليا عليه أن يبني ميزان ردع يجعل الحرب خيار الخصم الأقل جاذبية، فالمطلوب عقيدة دفاع إقليمية عقلانية تعتبر الأمن مسؤولية مشتركة لا شأنا قُطريا معزولا، وتعلن قواعد اشتباك واضحة، وتنوع مصادر التسليح الذي يقلل الارتهان للخارج ولا يبقى “زر تعطيل” السيادة في عاصمة بعيدة، وتوطن الصناعات الدفاعية تدريجيا تحت حوكمة مدنية تمنع الفساد، وتربط الإنفاق بأهداف قابلة للقياس.
وعلى مستوى الجغرافيا السياسية الأوسع لا يملك الإقليم رفاهية البقاء مجرد ساحة للصراع بين محاور العالم الكبرى، والمخرج ليس في التبعية إلى حلف غربي أو شرقي، بل في أن نصير، بواقعية لا رومانسية، كتلة تاريخية وسياسية واقتصادية وعسكرية قائمة بذاتها تعترف بعمق الرابط الثقافي- اللغوي العربي وبامتداداته التركية والإيرانية.
ففي عالم يعاد فيه توزيع الأدوار بين واشنطن، وبكين، وبروكسل، وموسكو، لا مكان لمن لا يملك أوراق القوة، والعرب، والأتراك، والإيرانيون، يمتلكون الطاقة والمنافذ البحرية والأسواق الضخمة والثروات البشرية الشابة.
فالمطلوب نقلةٌ في التعليم والبحث العلمي ومراكز الفكر التي تصوغ السياسات، وتبني، خطوة خطوة، ممرات جمركية ميسرة وسوقَ طاقة مشتركة وصندوقا سياديا للتنمية العابرة للحدود، ومجلسَ تخطيط تكنولوجيا يوطن المعرفة بدل استيرادها إلى الأبد.
وعند هذا المفصل، ينهض مثالان كبيران على إمكان تحويل الكارثة إلى فرصة، كما في تجربة الاتحاد الأوروبي كتجربة نهضوية ناجحة في سياق تجاوز تحدي النازية، والصين التي خرجت من قرن الإذلال وأصبحت لاعبا لا يمكن تجاوزه.
ولسنا نسخة من هذا أو ذاك، ولكننا لسنا خارج قوانين التاريخ، فالتحدي ينتج أمة إذا وجدت إرادة الاستجابة، والفكرة الدافعة التي تحدّث عنها مالك بن نبي- إنسان وتراب ووقت يشحَن بفكرة – لا تتحول إلى عمران إلا إذا حملتها أمة تؤمن بمشروع النهضة كخيار حتمي غير مؤجل.
على أن هذا كله لا يستقيم وحال بعض الدول العربية والإسلامية التي تصر على الاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية أو تجارية أو اقتصادية أو أمنية أو عسكرية مع الكيان الإسرائيلي، أو مع الشركات التي تدعمه.
ولا تستقيم مصفوفة التحدي والاستجابة بدون إعادة الاعتراف بالمقاومة بوصفها حركات تحرر وطني يكفل حقها القانون الطبيعي والدولي والإنساني في مقاومة الاحتلال ومواجهته، بل ودعمها بصوت عالٍ بدون تردد أو حرج، بوصفها خطَّ الدفاع الأول عن نيوز عربي العربي-الإسلامي، وجزءا من معادلة الردع الأوسع، لا بوصفها ظاهرة محلية قابلة للشيطنة، مع ربط هذا الاعتراف بميثاق قواعد اشتباك يحمي المدنيين بشكل حاسم.
ولا ينبغي، ونحن نبني هذا المشروع، أن نغفل عن مخاطبة الرأي العام العالمي، فالوعي العالمي الذي يتشكل حول فلسطين فرصة لا بد من التقاطها بذكاء، فغضب الشعوب في العواصم الغربية، وتزايد الأصوات اليهودية الناقدة للصهيونية وتصدع صورة “الاستثناء الأخلاقي” في وسائل الإعلام الكبرى، مؤشرات على إمكان بناء تحالفات دولية أوسع.
وهذا لا يعني الاتكال على أحد بقدر ما يعني أن نقدم قضيتنا للعالم بحجج قانونية وأخلاقية واضحة، وبخطاب سياسي عقلاني لا يساوم على الحق ولا يتورط في تبرير ما لا يبرَر، ونعيد للضحية اسمها ووجهها في الوثائق والقصص والمنابر، ونتقن مخاطبة الحركات الطلابية في الغرب، واليهود الناقدين للمشروع الصهيوني، بل ومخاطبة “الإنجيليين الصهاينة” في الولايات المتحدة، الذين يدعمون المشروع الصهيوني استنادا إلى لاهوت ديني- سياسي، بمرافعات تظهر كلفة هذا الدعم على المصالح الأميركية نفسها، وأن نبني جسورا ذكية مع كتل اجتماعية واقتصادية لا تتبنى ذلك اللاهوت لكنها ابتلعت سرديته الإعلامية.
قد يقول قائل: هذا كلام كبير أمام واقع قاسٍ. صحيح، لكن البديل عن هذا كله هو الصمت الذي يشرعن الانهيار. نحن أمام لحظة مفصلية، إما إصلاح العقل السياسي وشقوق الداخل، أو ترك المشروع الصهيوني يستكمل هندسة التفتيت.
لقد جربنا الحياد والمراهنة على الخارج والاستثمار بالانقسام، وكلها أوصلتنا إلى هنا.
الفرصة لم تتبخر، لكن الوقت يضيق، تجربة غزة أثبتت أن التركيع ليس قدرا، فرغم الفارق في موازين القوى، استطاعت المقاومة إرباك إسرائيل وإظهار ثغرات بنيوية مستحكمة داخل المجتمع والجيش والبنية الأمنية، غير أن غياب ظهير إقليمي فاعل حوّل الانتصار الجزئي إلى استنزاف طويل، ومنح إسرائيل وقتا إضافيا لاستكمال أهدافها.
إسرائيل في لحظة تفوق تاريخي نعم، لكنها في لحظة انكشاف أخلاقي غير مسبوقة منذ تأسيسها، فبنية القوة التي تملكها لا تحميها من التآكل البطيء إذا واجهتها بيئة عربية متماسكة داخليا، متفاهمة إقليميا، وذكية في إدارة علاقاتها العالمية.
ما تعلمناه حتى الآن يكفي لنبدأ بالانتقال من إدارة الهزيمة إلى إدارة التحول، وإلا فإننا نهدي المشروع الصهيوني الوقت الذي يحتاجه، ونجازف بتوريث الأجيال اللاحقة هزيمة ستجر اللعنة علينا، إذ ليس أقسى على التاريخ من أمة عرفت ولم تعمل، وليس أصدق في ساعة الاختبار من أمة تحيل معرفتها إلى قرار وإرادة وخطوات ترى وتقاس، ولسان حالها يقول: إننا أخيرا بدأنا نقرع جدار الخزان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة نيوز عربي.