• Home  
  • الدوحة ولبنان في مواجهة نتنياهو | سياسة
- أسرة - رياضة

الدوحة ولبنان في مواجهة نتنياهو | سياسة

بعد أكثر من عقدين على إقرار مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002، يبدو أن هذه المبادرة التي ارتكزت على معادلة بسيطة هي “التطبيع مقابل انسحاب إسرائيلي شامل”، قد وصلت إلى نهايتها الفعلية. فالتجربة مع إسرائيل خلال العقدين الماضيين أثبتت أن تل أبيب لم تكن يوما جادة في التعامل مع هذه المبادرة، بل عملت […]

بعد أكثر من عقدين على إقرار مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002، يبدو أن هذه المبادرة التي ارتكزت على معادلة بسيطة هي “التطبيع مقابل انسحاب إسرائيلي شامل”، قد وصلت إلى نهايتها الفعلية.

فالتجربة مع إسرائيل خلال العقدين الماضيين أثبتت أن تل أبيب لم تكن يوما جادة في التعامل مع هذه المبادرة، بل عملت على تفريغها وإسقاطها، كما أسقطت من قبل صيغة “الأرض مقابل السلام”.

ومع مرور الوقت، تبين أن المبادرة لم تحظَ بفرصة حقيقية للتنفيذ، لا من إسرائيل التي واصلت التوسع والاعتداء، ولا من الولايات المتحدة التي لم تكن يوما راغبة في ممارسة أي ضغط فعلي على حليفتها.

وفي المقابل، واصل العرب التمسك بها كمرجعية سياسية، حتى باتت أقرب إلى شعار معلق في الهواء من كونها مشروعا واقعيا قابلا للحياة.

اليوم، وبعد اتساع الحرب الإسرائيلية من غزة إلى الضفة الغربية، ومن لبنان إلى سوريا، واليمن، وصولا إلى الخليج عبر استهداف العاصمة القطرية الدوحة، يبدو أن اللحظة باتت مناسبة للانتقال من خطاب المبادرة إلى خطاب جديد، يقوم على قراءة واقعية لموازين القوى ولطبيعة المشروع الإسرائيلي في المنطقة.

فإسرائيل لم تعد معنية بالسلام، بل حتى الاتفاقيات الأبراهامية التي سوقت لها خلال السنوات الأخيرة تجاوزتها، بعدما وصلت إلى قناعة بأنها لم تعد بحاجة إلى اعترافات رسمية أو صور بروتوكولية.

في عقل نتنياهو وحكومته اليمينية، إسرائيل هي “الشرطي” وصاحبة الكلمة الفصل، وهي التي تضع القواعد وتفرض الإملاءات، بينما على الآخرين أن يلتزموا.

هذا المنطق الذي يحكم سلوك إسرائيل اليوم يقوم على القوة العارية، إذ لا تعرض تل أبيب على جيرانها ودول المنطقة أي التزام بعدم المس بالسيادة أو ضمانات لوقف الاعتداءات، بل على العكس، تحتفظ لنفسها بحق تنفيذ الغارات الجوية والتوغلات متى شاءت، وكيفما رأت ذلك مناسبا.

لذلك فإن ما يُسمى “اتفاقيات أمنية” ليس سوى صيغة خالية من أي ضمانات متبادلة، بل مجرد إطار لتثبيت تفوق إسرائيل، وإبقاء المنطقة كلها في موقع الخضوع. وهو ما يجعل أي حديث عن سلام أو استقرار مجرد وهم لا يستند إلى وقائع سياسية أو عسكرية.

والمفارقة أن إسرائيل لم تكتفِ بتجاوز المبادرة العربية أو الاتفاقيات الأبراهامية، بل ضربت أيضا الأسس التي قامت عليها اتفاقيات السلام التاريخية.

فمع مصر، بدا واضحا أن مشروع تهجير أهل غزة نحو سيناء يهدد مباشرة اتفاقية كامب ديفيد، ويمس بالأمن القومي المصري. ومع الأردن، قضت مشاريع الاستيطان في غور الأردن على اتفاقية وادي عربة، فيما تتعامل مع لبنان، وسوريا من خارج أي سياق للتفاهم أو الاتفاق.

أما استهداف الدوحة، الحليف الإستراتيجي لواشنطن وصاحبة الدور الوسيط في معظم النزاعات الإقليمية، فقد شكل مؤشرا خطيرا على أن إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وباتت ترى نفسها قادرة على خوض مواجهة مفتوحة بلا حساب.

ولبنان ليس بعيدا عن هذه التحولات. فإسرائيل التي تتصرف اليوم بوصفها “شرطي المنطقة” لم تتوقف يوما عن تهديد الساحة اللبنانية، سواء عبر الغارات والاغتيالات، أو عبر محاولات فرض معادلات أمنية تتجاوز سيادة الدولة.

ومع أن الحكومة اللبنانية اتخذت مؤخرا قرارا تاريخيا بحصر السلاح بيد الدولة، وتكليف الجيش بإعداد خطة تنفيذية لذلك، فإن تل أبيب تسعى إلى استغلال اللحظة لإعادة فرض شروطها عبر الضغوط والتهديدات، وربما عبر عمليات عسكرية محدودة.

ما يزيد من خطورة الوضع، أن لبنان يقف على تماس مباشر مع غزة، وسوريا في قلب الجبهة المشتعلة، وأن أي تطور في مسار الحرب الإسرائيلية سينعكس بالضرورة عليه.

من هنا، فإن أي مشروع عربي أو إقليمي جديد لا يمكن أن يغفل موقع لبنان، ليس فقط كخط تماس، بل أيضا كأحد الميادين الأساسية التي تسعى إسرائيل إلى تطويعها لإسقاط فكرة المقاومة، وإعادة تشكيل الخريطة السياسية والأمنية على مقاسها.

وفي المقابل، يحتاج لبنان إلى مظلة تكاملية عربية وإقليمية تحصنه من الانهيار، وتمنع تحويله إلى ساحة تصفية حسابات، تماما كما يحتاج إلى مساندة في بناء مؤسسات دولته، وتحرير قراره من الضغوط المتناقضة التي تحاصره.

في هذا السياق، تكتسب القمة الاستثنائية في الدوحة أهمية مضاعفة. فهي تنعقد في ظل إدراك متزايد في العواصم العربية والإقليمية، أن إسرائيل تحولت إلى مشروع تهديد شامل، وأن الصيغة التقليدية المتمثلة بالإدانات والشجب لم تعد كافية.

المطلوب اليوم هو البحث عن مسار جديد يقوم على بناء مشروع تكاملي بين دول المنطقة، مشروع لا يقتصر على السياسة، بل يمتد إلى مجالات الدفاع والأمن المشترك، وصولا إلى الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا.

فالمطلوب ليس فقط ردع إسرائيل عسكريا، بل أيضا تحصين الاقتصادات الوطنية وربطها في شبكة متشابكة تجعل أي اعتداء على دولة تهديدا للجميع. عندها فقط يمكن الحديث عن توازن جديد يضعف من قدرات إسرائيل على التحكم بالمنطقة منفردة.

إن سلوك نتنياهو في غزة يقدم نموذجا صارخا عن هذه العقلية. فهو لم يتردد في استهداف الأبراج السكنية وتدميرها بالجملة، معترفا علنا بتدمير خمسين برجا، وهو ما لا يمكن تفسيره باعتباره استهدافا عسكريا.

الرسالة هنا مزدوجة: من جهة يريد نتنياهو إغلاق ملف الأسرى عبر قتلهم تحت الأنقاض بحجة الخطأ، ومن جهة أخرى سعى إلى ضرب الوفد المفاوض من حركة حماس بالكامل، ما يعني إقفال أي نافذة للتسوية السياسية.

وبذلك يكرس الخيار العسكري وحده، ويفتح الباب أمام حرب بلا سقف تستند إلى مشروع أيديولوجي أوسع، يندرج في سياق فكرة “إسرائيل الكبرى” التي يعتقد أن اللحظة الراهنة مؤاتية لتحقيقها، خصوصا في ظل وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض.

لكن لا يمكن اختزال المشهد في إسرائيل وحدها. فعملية بحجم استهداف الدوحة لا يمكن أن تتم من دون ضوء أخضر أميركي، سواء عبر المشاركة المباشرة، أو عبر غض الطرف.

فمن غير المنطقي أن تقلع خمس عشرة طائرة إسرائيلية باتجاه الخليج من دون أن ترصدها أجهزة الرصد الأميركية المنتشرة في المنطقة، التي تصل تغطيتها إلى بحر الصين. وإذا كان ترامب قد سمح أو تغاضى، فهذا يعني أن إسرائيل لا تتحرك وحدها، بل ضمن شراكة كاملة مع واشنطن، وهو ما يفسر اندفاعها وجرأتها في توسيع رقعة الحرب.

لهذا كله، فإن اللحظة الراهنة تفرض على العرب والإقليميين الخروج من أسر المبادرات التقليدية، والانتقال إلى مشروع إستراتيجي جديد لا يقوم على انتظار مبادرات أميركية أو تفاهمات إسرائيلية، بل على بناء رؤية مستقلة قوامها التكامل الإقليمي.

هذا التكامل ينبغي أن يتجسد في منظومة دفاعية مشتركة، وفي مشروعات اقتصادية وصناعية وتجارية تربط الدول العربية والإسلامية معا، من الطاقة إلى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

بهذه الطريقة فقط يمكن تحويل اقتصادات المنطقة إلى قوة متشابكة يصعب كسرها، ويمكن تحويل الأمن القومي إلى منظومة متكاملة تردع أي عدوان إسرائيلي مستقبلي.

لقد أثبتت السنوات الماضية أن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة، وأنها لا تعترف بالسلام إلا حين يخدم مصالحها المباشرة. وما دامت تعتبر نفسها قادرة على إعادة رسم خريطة المنطقة، فإن الرد لا يكون بالتمسك بمبادرة لفظية أو بانتظار ضغط خارجي، بل بالانتقال إلى مشروع إستراتيجي جامع يغير موازين القوى فعلا.

وهنا تبرز أهمية ما حملته قمة الدوحة الطارئة التي جاءت بمثابة إعلان سياسي واضح أن مرحلة الصمت أو الاكتفاء بالشجب لم تعد كافية.

فالقمة أعادت صياغة مشهد مختلف يقوم على إدراك أن العدوان لم يعد محصوراً بغزة أو لبنان أو سوريا، بل بات يستهدف قلب الوساطة الإقليمية ذاتها، وهو ما يفرض على العواصم العربية والإسلامية أن تنخرط في مسار يتجاوز الشعارات إلى العمل الملموس.

التحدي الأبرز أمام القمة يكمن في قدرتها على تحويل الإجماع السياسي الذي ظهر في كلمات القادة إلى أدوات ضغط عملية توقف الحرب على غزة وتحدّ من توسعها، سواء عبر تنسيق موقف تفاوضي موحد يمنع نتنياهو من اللعب على تناقضات الأطراف، أو عبر إطلاق مبادرة تكاملية في مجالات الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي تمنح الفلسطينيين هامشاً للصمود، وتضع إسرائيل أمام معادلة ردع حقيقية.

كما يطرح على القمة تحدي بلورة آلية متابعة دائمة، تضمن ألا تبقى قراراتها حبيسة البيانات، بل تتحول إلى التزامات متدرجة تشمل الضغط الدبلوماسي في المحافل الدولية، وتنسيقاً عسكرياً وأمنياً يحصّن الدول الأكثر عرضة للعدوان مثل لبنان وسوريا.

في المقابل، فإن الفرصة التي تتيحها القمة تكمن في قدرتها على خلق شبكة أمان عربية–إسلامية تعيد الاعتبار لفكرة التضامن العملي، وتفتح الباب أمام وقف شامل للنار في غزة شرط أن يترافق مع ضمانات لإعادة إعمار القطاع وتثبيت صمود أهله، بما يمنع تحويل وقف إطلاق النار إلى هدنة هشة تستغلها إسرائيل لاستئناف حربها بعد أشهر.

ومن منظور لبناني، فإن أي قرار عربي بدعم مؤسسات الدولة والجيش يمكن أن يشكّل رافعة أساسية في مواجهة الضغوط الإسرائيلية الرامية إلى فرض معادلات أمنية تتجاوز سيادة بيروت.

بهذه الروح، يمكن أن تتحول قمة الدوحة من محطة طارئة إلى منعطف استراتيجي يعيد توجيه مسار المنطقة من منطق الخضوع إلى منطق الشراكة والندية، ويمنح لبنان وفلسطين على وجه الخصوص فرصة للخروج من دائرة الاستنزاف المستمرة نحو أفق جديد من الحماية والتكامل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة نيوز عربي.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من نحن

“نحن في موقع نيوز عربي نولي اهتمامًا كبيرًا بتجربة المستخدم، حيث يتم تحسين المحتوى والعروض الترويجية بناءً على تحليلات دقيقة لاحتياجات الزوار، مما يسهم في تقديم تجربة تصفح سلسة ومخصصة.”

البريد الالكتروني: [email protected]

رقم الهاتف: +5-784-8894-678