اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
عندها يتحول الطفل إلى وعاء لأحلام والديه المؤجلة وإخفاقاتهم الماضية.
لا يحدث هذا في فراغ، بل يتزامن مع تحذير لمنظمة الصحة العالمية من أن القلق والاكتئاب يتصدران أسباب العجز والمرض بين المراهقين، والمفاجأة أن المنزل قد يكون أحد الأسباب.
الفاتورة الباهظة للحب الخانق
إن الضرر الناتج عن هذا “الحب الخانق” أعمق بكثير مما نتصور، فهو لا يترك ندوبا نفسية فحسب، بل يغير من كيمياء الدماغ وبنية الشخصية على الأمد الطويل، حيث يتسبب في إعادة برمجة دماغ المراهق ليكون أكثر قلقا واندفاعا، وأقل قدرة على بناء هوية مستقلة ومتماسكة.
يحدث ذلك لأسباب علمية، فالضغط المزمن يؤثر سلبا على مركز اتخاذ القرار في الدماغ، كما يزيد من نشاط مركز الخوف.
الأخطر أن الظل الذي يلقيه هذا الضغط قد يمتد لما هو أبعد من سنوات المراهقة، عبر التالي:
- سلب الاستقلالية عبر التحكم المفرط في قراراتهم ومساراتهم، وبالتالي يعانون من صعوبة مزمنة في اتخاذ القرارات، لأن بوصلتهم الداخلية لم تتح لها فرصة التطور.
- تقويض شعورهم بالكفاءة الذاتية الداخلية عبر ربط قيمتهم بالنتيجة النهائية لا بالجهد والمحاولة، لذلك هم أكثر عرضة لاحقا للاحتراق الوظيفي، لأنهم مدفوعون بالخوف من الفشل لا بالشغف الحقيقي.
- تدمير حاجتهم للارتباط الآمن عبر تقديم حب مشروط بالإنجاز، مما يتركهم في شعور دائم بالنقص، مما يجعلهم دائما يبحثون عن قيمتهم في عيون الآخرين.
3 دوافع متفاعلة
لفهم لماذا تتحول المشاعر الفطرية النبيلة إلى “حب خانق” وضغط مدمر، يجب النظر إلى تفاعل 3 محركات نفسية عميقة، قد تكون انعكاسا لنرجسية كامنة، أو صرخة استغاثة صامتة من أب وأم مُنهكين تحت وطأة الحياة الحديثة.
- صدى الأحلام المؤجلة (الإنجاز بالوكالة): أظهرت الدراسات أنه عندما يفكر الآباء في طموحاتهم الشخصية التي لم تتحقق، تزداد رغبتهم في أن يحققها أبناؤهم بالنيابة عنهم، خاصة إذا كانوا يرون الطفل امتدادا لذواتهم. هنا، لا يصبح نجاح الابن مصدر فخر فحسب، بل يصبح ترميما لماضٍ لم يكتمل.
- الطفل الاستثنائي (المبالغة في التقييم): وجد باحثون أن المبالغة الأبوية في التقييم -أي الإيمان بأن طفلهم أكثر تميزا واستحقاقا من الآخرين- تحوّل إنجازات الطفل من رحلة نمو خاصة به إلى مادة لتلميع صورة الأهل وتعزيزها اجتماعيا. يتحول الطفل إلى واجهة عرض فاخرة، ونجاحاته إلى مجرد إكسسوارات تزين صورة الأهل، مما يجرده من حقه في أن يكون عاديا وأن يخطئ وينمو بحرية.
- ضغط حياة الآباء (السيطرة التعويضية): الآباء ليسوا محصنين ضد ضغوط الحياة، حيث يعانون من مستويات توتر وقلق أعلى من غيرهم. وعندما يشعر الآباء أن عالمهم الخاص يخرج عن السيطرة (ديون، مشاكل وظيفية، قلق) يلجؤون بغير وعي إلى “السيطرة التعويضية”، حيث تصبح حياة أطفالهم هي المساحة الآمنة الوحيدة التي يشعرون أن بإمكانهم التحكم فيها وتنظيمها بدقة، ليدفع الابن ثمن حاجة والديه للشعور بالسيطرة.
النقد المستمر لأطفالنا هو بمثابة تآكل بطيء لأرواحهم.
بواسطة د. جون غوتمان، عالم نفس أميركي متخصص في العلاقات الأسرية
5 أعراض لأزمة “التحكم النفسي” المدمر
لكن كل ما سبق لا يعني بالضرورة أن كل سيطرة أبوية مؤذية، فالعلماء يميزون بين “التحكم السلوكي”، وهو أشبه ببناء سياج أمان حول الأبناء عبر وضع قواعد وحدود صحية. أما السلبي فهو “التحكم النفسي” وهو أشبه ببناء سجن للهوية عبر التلاعب بالمشاعر والأفكار، وهو وصفة دقيقة لتغذية الاكتئاب وتآكل الدافعية الذاتية.
وإليك 5 علامات تكشف هذا النوع المدمر من الحب:
- الحب كمكافأة مشروطة: حيث يصبح القبول والدفء عملة لا تمنح إلا مقابل الإنجاز الأكاديمي أو التفوق الرياضي، وتسحب عند الإخفاق، مما يرسخ رسالة مفادها: “قيمتك تكمن فيما تفعله، لا في شخصك وذاتك”.
- سلاح المقارنة الدائم: استخدام نجاحات الآخرين (أقارب أو أقران) كسوط معنوي دائم، يهدف ظاهريا إلى التحفيز لكنه لا يزرع في الحقيقة سوى الشعور المزمن بالنقص وعدم الكفاءة.
- تجريم الفشل: تحويل المنزل من مساحة آمنة للتجربة والخطأ إلى محكمة دائمة، يعاقب فيها التعثر بسحب المودة أو النقد اللاذع، مما يرسخ لدى الابن أن التجربة أمر خطير، وأن السلامة تكمن فقط في تجنب الأخطاء.
- سرقة حق الاختيار: اتخاذ القرارات المصيرية نيابة عن الابن (كتخصصه الجامعي أو هواياته)، ليس من باب النصح، بل من باب الفرض الذي يلغي إرادته ويسلبه فرصة تعلم كيفية اتخاذ قراراته بنفسه.
- الإدارة التفصيلية لحياته: تحويل حياة الابن إلى مشروع تفصيلي بإدارة الأبوين، من جدول نومه إلى أصدقائه إلى المأكل والمشرب والملابس، مع تهميش كامل لرأيه، مما يمنعه من تطوير مهارات التنظيم الذاتي والاعتماد على النفس.
الدعم الناجح: 5 خطوات لتحرير إمكانات ابنك
ولكن ما الحل إذا كان الحال كذلك؟
في الحقيقة، الحل لا يكمن في الانسحاب من حياة أبنائك، بل في تغيير دورك فيها؛ والتحول من مهندسٍ يرسم مستقبلهم إلى بستاني ينمّي إمكاناتهم. هذه “الوصفة” ليست مجرد نصائح، بل هي إستراتيجية متكاملة لإعادة ضبط بوصلة التربية نحو دعم صحي وأصيل.
- الحب غير المشروط: يجب أن يشعر ابنك بأن حبك وقبولك له هو خط الأساس الثابت الذي لا يتغير، بغض النظر عن نجاحاته أو إخفاقاته. تجنب تماما ربط عبارات الفخر والحب بالإنجاز “أنا فخور بك لأنك فزت”. هذا الأمان العاطفي هو القاعدة التي تمنحه الشجاعة لينطلق ويخاطر ويحاول.
- إعادة تعريف النجاح: الخطوة الأولى والأهم هي تمرين ذهني مستمر لفصل هويتك عن هويته. ذكّر نفسك دائما أن هذه حياته، وليس نسخة مني. هذا يعني إعادة تعريف مفهوم النجاح بالكامل، بحيث لا يعود محصورا في المال والمناصب التي قدّرتها أنت، بل يتسع ليشمل الرضا الداخلي والشغف الذي يختاره هو، حتى لو كان في مجال لم تفكر به يوما.
- الجهد وليس النتيجة فقط: بدلا من أن يكون سؤالك الدائم عن نتائج الامتحان، اجعله عما واجهه في يومه وكيف تغلب عليه. احتفِ بالمثابرة بعد التعثر، والشجاعة لتجربة شيء جديد. هذا يرسخ لديه قناعة بأن قيمته الحقيقية تكمن في شخصيته وجهده، لا في ورقة الامتحان.
- مساحة قيادة: طبّق تقنيات عملية تمنحه الشعور بالسيطرة على حياته. على سبيل المثال، عقد “اجتماع أهداف” أسبوعي قصير يحدد فيه هو بنفسه هدفا واحدا يسعى لتحقيقه. هذه المساحة الصغيرة من القيادة تعلمه المسؤولية وتزيد من دافعيته الداخلية.
- صحتك النفسية: عندما تشعر بالقلق على مستقبله، تذكر أن هذا القلق قد يتسرب إليه ويصبح عبئا إضافيا، وتذكر أن أفضل طريقة لتهدئة الابن أحيانا هي أن يرى والديه هادئين وواثقين.
أخيرا نقول لكل أب، إذا شعرت أن ما سبق ينطوي على إدانة الحرص الأبوي ودعوة لتمرد الأبناء، فنرجو التمهل قليلا. غاية الأمر مجرد دعوة لضبط إيقاع الحب، وذلك حتى لا يفقد جوهره ويلتف حول عنق أبنائك، والحكمة القديمة تقول إن “من الحب ما قتل”.
المصدر: مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي