قتل تشارلي كيرك 10 سبتمبر/أيلول برصاص قناص كان متمركزا -على ما يبدو- فوق سطح مبنى يبعد حوالي 200 متر، في حرم جامعة ولاية يوتا بمدينة أورم. وكان هذا المؤثر المؤيد لترامب، والبالغ من العمر 31 عاما، يتحدث أمام حشد من الآلاف، في أولى محطات جولته المسماة “عودة أميركا”.
وقد أحيطت وفاته بسيل من الرثاء، والدعاء، والغضب، عبر عنه الساسة والمحللون بأكثر العبارات تضخيما، وتناقلته وسائل الإعلام على نحو يغفل حقيقة تبنيه أجندة التفوق العنصري اليميني المتطرف، وثقافة العنف المنبثقة من شعار: “اجعلوا أميركا عظيمة مجددا”.
دونالد ترامب سارع إلى اتهام ما أسماه “العنف اليساري” بالمسؤولية عن مقتل كيرك، وكما لاحظ نولان هيغدون، فإن “المحافظين صوروا اغتيال كيرك على أنه عمل حربي من قبل اليسار”. بل إن إدارة ترامب، بدورها، تحركت بسرعة لاستغلال الحادث سياسيا، لتقييد حرية التعبير والرأي في الولايات المتحدة.
وهذه الحملة الجديدة، التي تتسم بالخطر الشديد، تبدو حتى الآن التهديد الأكبر الذي يشكله ترامب وحركته على الديمقراطية الأميركية.
من هو تشارلي كيرك؟
بدأ كيرك مسيرته 2012، حين أسس -وعمره لم يتجاوز 18 عاما- منظمة “نقطة التحول في الولايات المتحدة” (TPUSA)، التي أصبحت لاحقا أكبر تجمع شبابي من اليمين المتطرف في البلاد.
منذ انطلاقته، حظي كيرك بدعم سخي من ممولين صهاينة، ضخوا أموالا طائلة في منظمته، عبر كيانات نيومحافظة، مثل “مركز ديفيد هورويتز للحرية”.
ورد كيرك الجميل لهؤلاء المانحين مرارا، بإغراق الساحة بسيل متواصل من خطابات الكراهية ضد الفلسطينيين، وبمهاجمة الإسلام، بالإضافة إلى قبوله رحلات سياحية ممولة لزيارة إسرائيل.
وكما كتب الصحفي ماكس بلومنتال: “في عهد ترامب، لم يكن هناك من بين الأميركيين غير اليهود من كان أكثر نفعا للدولة اليهودية المعلنة من تشارلي كيرك”.
لكن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدأت الأمور تتغير. ففي الأسابيع والأيام التي سبقت اغتياله، شرع كيرك بسحب دعمه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. بل إنه رفض عرضا من نتنياهو بالمساعدة في الحصول على تمويل إضافي لمنظمة TPUSA.
ومع تزايد انتقادات كيرك لإسرائيل، تصاعدت ردة الفعل من نتنياهو ومن يدورون في فلكه.
وبدأت الجيوش الإلكترونية الموالية لإسرائيل بمهاجمته على الإنترنت، ووفقا لصديق مقرب تحدث بشرط عدم الكشف عن اسمه، فقد عبر كيرك قبل أيام من اغتياله عن خوفه من ضغوط “القوى المؤيدة لإسرائيل”.
وبحسب نفس المصدر، فقد بدأ كيرك يرى في نتنياهو شخصية متسلطة. وكان يشتكي بأن نتنياهو، خلال إدارة ترامب، “سعى لفرض قرارات شخصية على البيت الأبيض، كاختيار الموظفين”، وأبدى انزعاجه من استعداد ترامب لقصف إيران إرضاء لنتنياهو.
وقد عبر عن رفضه لما كان يراه تدخلا سافرا من “قوة أجنبية خبيثة” في السياسات الأميركية. وموقفه هذا، المناوئ لإسرائيل، نابع من نزعة قومية أميركية مغالية تنتمي لحركة MAGA.
وكان من أسباب تغير موقف كيرك أيضا، الانحدار السريع في شعبية إسرائيل، حتى داخل أوساط اليمين الأميركي.
وقد انعكس هذا بشكل خاص في قاعدته الشبابية؛ إذ لم تتجاوز نسبة الجمهوريين الشباب- الذين يرون إسرائيل بشكل إيجابي أكثر من الفلسطينيين- 24%.
وفي يوليو/تموز 2025، عقد كيرك ملتقى “قمة العمل الطلابي”، والذي تحول إلى منبر عبر فيه الحضور عن غضبهم من “القبضة السياسية الإسرائيلية المحكمة” على إدارة ترامب.
وقد شارك في هذا الحدث عدد من الأسماء البارزة مثل المذيعين السابقين في “فوكس نيوز” تاكر كارلسون وميغن كيلي، بالإضافة إلى الكوميديان اليهودي المناهض للصهيونية ديف سميث، والذين أدانوا جميعا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. بل إن كيرك نفسه تحدى الرواية الإعلامية المؤيدة لإسرائيل في مقابلة جمعته بالمعلق الإسرائيلي المدافع عن تل أبيب، بن شابيرو.
ومع ذلك، فمنذ مقتله، جرى التعتيم على عدائه لنتنياهو ولإسرائيل، وأعيدت كتابة سرديته الشخصية بطريقة مبسطة ضمن حملة دعائية كثيفة تقوم على التبييض والتلميع والرقابة. كما قالت صحيفة غارديان: “بات من النادر تقديم روايات نزيهة عن حياته”، وأصبح من الخطير قول الحقيقة بشأن كيرك.
وقد أدى نشر أحد اقتباساته الحرفية إلى طرد الصحفية السوداء الوحيدة العاملة بدوام كامل في صحيفة واشنطن بوست، كارين أتيه. فقد نقلت عنه قوله: “النساء السوداوات لا يمتلكن القدرة الذهنية الكافية ليؤخذن على محمل الجد. عليكن سرقة مقعد مخصص لامرأة بيضاء”.
كما وثقت أتيه كيف دأب كيرك على مهاجمة النساء السوداوات كفئة، وعلى إطلاق مزاعم زائفة بشأن الجريمة في أوساط السود، كما يتضح في أحد مقاطع الفيديو على تيك توك.
أما حلقاته الصوتية، فقد كانت مليئة بالعنف المكبوت، ومطعمة بإهانات نمطية ضد النساء والمهاجرين والسود والمسلمين. وكان قد دعا علنا إلى عرض تنفيذ حكم الإعدام على الهواء مباشرة، مضيفا: “ينبغي، ضمن طقوس البلوغ، أن يطلب من الأطفال في سن معينة مشاهدة ذلك”.
ورغم كل هذا، قدم معسكر ترامب ومؤثرو اليمين كيرك كـ”مقاتل من أجل حرية التعبير”، وبطل للحوار الديمقراطي. ومع تصاعد دعوات اليمين لإسكات خصومه، انضم بعض الديمقراطيين الليبراليين، بل وبعض المعلقين في الإعلام الليبرالي إلى هذا التيار، ومنهم كاتب العمود المعروف في نيويورك تايمز، عزرا كلاين، الذي اعتبر كيرك “نموذجا للنقاش الرشيد والفضيلة المدنية”.
وذهب إلى القول بأن كيرك كان “يحضر إلى الجامعات ويتحاور مع أي شخص يرغب في النقاش”، وبأنه كان يمارس السياسة “بالطريقة الصحيحة”. وأضاف أن كيرك كان جزءا أصيلا من مشروع أوسع لـ”حماية التجربة الأميركية من الانهيار”.
لكن كما أشارت الصحفية مويرا دونيغان، فإن مناظرات كيرك لم تكن عادلة ولا عقلانية بحال. فقد كان يتعمد “المناظرة مع طلاب يساريين مبتدئين أمام الكاميرات في جلسات غير متكافئة وعدائية ومشحونة، يسعى فيها إلى استفزاز محاوريه، ثم يقاطعهم ويقلل من شأنهم”، قبل أن يقوم بتحرير اللقطات بشكل انتقائي لصنع محتوى “فيروسي” يظهره وهو يذل خصومه الليبراليين، ويرضي جمهور مؤيديه. لم تكن تلك المناظرات ساحة نقاش حر، بل كانت “تهكما على الديمقراطية ذاتها”.
وإلى جانب الصحفيين، طالت العقوبات أيضا موظفين ومستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي، لمجرد قول الحقيقة بشأن كيرك. فقد فُصل المحلل السياسي في MSNBC، مايكل دود، فقط لأنه قال على الهواء إن “خطاب الكراهية يؤدي إلى أفعال كراهية”.
ووفقا لوكالة أسوشيتد برس، تم إيقاف صحفي من فلوريدا؛ بسبب سؤال وجهه إلى أحد النواب، كما فقدت كاتبة قصص مصورة وظيفتها؛ بسبب منشوراتها على الإنترنت.
وطُرد صحفي رياضي من أريزونا، ومسؤول علاقات عامة في نادي كارولينا بانثرز، وأُوقف طياران في الخطوط الجوية الأميركية بزعم “احتفالهما” باغتيال كيرك.
وفي الوقت الذي يدعي فيه ترامب رفضه العنف السياسي، يمعن في توجيه أصابع الاتهام إلى “اليسار الراديكالي العنيف”، متجاهلا نفاقه المفضوح؛ إذ لا يستنكر العنف إلا إذا طاول شخصية بيضاء من أقصى اليمين، مثل كيرك، الذي روج بنفسه ثقافة العنف، ورأى في الليبراليين واليساريين “عدوا داخليا”.
وجاء مقتله في وقت بات فيه العنف السياسي ظاهرة متغلغلة في المشهد الأميركي، في ظل سماح الولايات المتحدة وحلفائها لإسرائيل بارتكاب أبشع صور العنف السياسي في غزة. وكما قالت صحيفة “موندويز”: “إن كنت ضد العنف السياسي، فتوقف عن تسليح إسرائيل”.
لقد كان كيرك من أكبر المدافعين عن العنف، وعبر صراحة عن شرعنته حين قال: “من المقبول أن ندفع الثمن بوقوع قتلى بالسلاح كل عام من أجل الحفاظ على التعديل الثاني للدستور الأميركي” (الذي يضمن حق امتلاك السلاح). وهكذا، قُتل بسلاح هو من دعا إلى استخدامه.
وبحسب ماكس بلومنتال، فقد لا نعرف أبدا ما إذا كانت لإسرائيل يد في اغتيال كيرك، لكن نتنياهو شعر بأنه مضطر إلى نفي ضلوع إسرائيل في مقتل المؤثر اليميني.
وفيما تزداد ثقافة العنف اليميني تغولا، يُستغل مقتل كيرك بلا هوادة لتسليح نزعة ترامب السلطوية، ومحو ما تبقى من حرية التعبير في أميركا، تماما كما استُخدمت تهمة “معاداة السامية” منذ سنوات كسلاح لإسكات الأصوات المناهضة للإبادة الجماعية.