وزاد المشهد تعقيدا انشقاق شخصيات بارزة وانضمامها إلى صفوف الحزب الحاكم، في خطوة أثارت جدلا واسعا حول قدرة الحزب على الحفاظ على تماسكه، وبينما تتراكم هذه التحديات، يحاول الحزب بقيادة أوزغور أوزال رسم إستراتيجية جديدة تضمن تحصينه كأكبر قوة معارضة في البلاد، وبقاءه فاعلا في المشهد السياسي.
تحقيقات واعتقالات
دخلت بلديات حزب الشعب الجمهوري في مرمى حملة حكومية متصاعدة خلال العام الجاري، طالتها اتهامات بالفساد وارتباطات بالتنظيمات المحظورة.
فمنذ مطلع العام، أُوقف أو أُعفي من مهامه ما لا يقل عن 15 رئيس بلدية معارض، بينهم رئيس بلدية إسطنبول البارز أكرم إمام أوغلو، قبل أن تتوسع الحملة في الأشهر الأخيرة باعتقال رئيس بلدية بي أوغلو وسط إسطنبول مع عشرات الموظفين في قضية فساد.
وتشير التقارير إلى أن حصيلة الموقوفين في هذه الملفات تجاوزت 500 شخص على مستوى البلاد.
وتتمسك السلطات بسلامة هذه الإجراءات، مؤكدة أن التحقيقات تستند إلى شبهات فساد مالي أو صلات غير قانونية في إدارة البلديات، لكن الحزب ينفي تلك المزاعم بشكل قاطع، ويصفها بأنها ذريعة لإقصاء البديل الديمقراطي وتهميش إرادة الناخبين، فيما ذهب قادته إلى اعتبارها “انقلابا قضائيا” يستهدف المدن الكبرى التي فاز بها الحزب.
ويؤكد مسؤولو المعارضة أن شبكة داخل أجهزة الأمن والقضاء شكلت مطلع العام لتلفيق اتهامات ضد رؤساء البلديات، مشيرين إلى أن حملة التوقيفات التي بدأت في 19 مارس/آذار الماضي، وشملت إمام أوغلو، تجسد هذه الإستراتيجية.
انشقاقات متتالية
وفي خطوة مفاجئة خلال أغسطس/آب الجاري، أعلنت أوزلام تشرشي أوغلو، رئيسة بلدية آيدن الكبرى وأحد أبرز وجوه المعارضة المحلية، انضمامها إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال احتفال رسمي حضره الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتحولت اللحظة إلى مشهد رمزي قوي، إذ وقفت تشرشي أوغلو إلى جانب أردوغان على المنصة، مؤكدة أنها ستواصل خدمة مدينتها تحت راية الحزب الحاكم.
وجاءت هذه الخطوة ضمن دفعة واحدة شملت 9 رؤساء بلديات معارضين رحب بهم أردوغان في الذكرى الـ24 لتأسيس حزبه، واصفا انتقالهم بأنه “إضافة نوعية لعائلة العدالة والتنمية”.
غير أن وقع هذه الانشقاقات كان صادما داخل صفوف المعارضة، حيث اتهم زعيم الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل الحكومة بممارسة ضغوط مباشرة على تشرشي أوغلو، مشيرا إلى أنها خيرت بين الانضمام إلى الحزب الحاكم أو مواجهة ملفات فساد قد تقودها إلى السجن.
ورغم نفي تشرشي أوغلو ومسؤولي العدالة والتنمية هذه الرواية بشكل قاطع، فإن الاتهامات عززت المخاوف من إمكانية تكرار السيناريو مع شخصيات أخرى.
وبالتوازي، غذت هذه التطورات موجة من الشائعات حول انتقال مزيد من رؤساء البلديات إلى صفوف الحزب الحاكم، وقد اضطر أيوب قهوجي، رئيس بلدية كوتاهيا، إلى الظهور في تسجيل مصور لنفي الأخبار المتداولة، مؤكدا التزامه بموقعه داخل الحزب وخدمة مدينته دون تغيير.

صراع على القيادة
يعيش حزب الشعب الجمهوري على وقع أزمة داخلية متشابكة تتمحور حول شرعية قيادته الحالية. فبعد النتائج المخيبة للانتخابات الماضية، تولى أوزغور أوزال رئاسة الحزب في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 خلفا لكمال كليجدار أوغلو، الذي خسر السباق الرئاسي أمام أردوغان.
وجاء صعود أوزال عبر المؤتمر العام الـ38 للحزب بدعم الجناح الإصلاحي الشاب بقيادة أكرم إمام أوغلو، لكن نتائج المؤتمر سرعان ما واجهت طعونا قضائية بدعوى وجود مخالفات إجرائية، لتبقى شرعية القيادة معلّقة على حكم قضائي مرتقب قد يقلب موازين الحزب.
وفي آخر جلسات المحكمة بأنقرة، تقرر في 30 يونيو/حزيران الماضي، تأجيل البت في القضية إلى 8 سبتمبر/أيلول المقبل، وهو ما منح الحزب فسحة لترتيب أوراقه.
وفي خطوة استباقية، دعا أوزال الهيئة العليا إلى التحضير لمؤتمر عام جديد بنهاية العام، يبدأ بمؤتمرات مناطق وإقليمية حتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، على أن يُعقد المؤتمر الوطني في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني أو مطلع ديسمبر/كانون الأول، لاختيار قيادة جديدة.
وهكذا يجد الحزب نفسه أمام مفترق حساس، فإما أن ينجح في التوفيق بين تياراته المختلفة ويعزز شرعيته عبر الانتخابات الداخلية، أو ينزلق إلى انقسام قد يفتح الباب أمام الحزب الحاكم لاستثمار أزمته الداخلية.

رؤية المعارضة
ويرى مراد جان إيشيلداق، نائب رئيس لجنة الانضباط في الحزب، أن حزبه يسير نحو السلطة على أساس مبادئه الاجتماعية الديمقراطية، ويعمل على ترسيخ التعددية في صفوفه لضمان تماسكه الداخلي.
ويضيف إيشيلدق، في حديث للجزيرة نت، أن السياسات التي يعتمدها الحزب تقوم على المساءلة والشفافية، مع الحرص على أن تكون واقعية ومرتبطة مباشرة باحتياجات المجتمع، مؤكدا أن الحزب يحافظ على حوار مستمر مع مختلف الفئات، عبر أسلوب يقوم على العقل الجماعي والمشاركة، بما يعزز التواصل الفعّال بين قياداته والشارع.
ويشدد إيشيلداق على أن الأولوية بالنسبة للحزب ليست مجرد انتقاد الحكومة، بل طرح أهدافه ورؤيته المستقبلية بطريقة تبعث الثقة في المجتمع، وتؤكد جاهزية المعارضة لتولي الحكم.
ويختم بالقول إن هذا النهج يسهم في تعزيز وحدة التنظيم الحزبي من جهة، ويمنح المجتمع رسالة واضحة بأن المعارضة ليست قوة رافضة فقط، بل بديل سياسي قادر ومستعد لتحمل المسؤولية.
اغتيال معنوي
من جانبه، قال المحلل السياسي المختص بالشأن التركي على أسمر، إن الحزب تعرض لما وصفه بـ”الاغتيال المعنوي” بعد سلسلة الأزمات المتتالية والمعقدة التي عصفت به، ولم يعد قادرا على مواجهة الحزب الحاكم بفاعلية.
وأضاف أن المشهد الحالي يرجح ولادة حزب معارض جديد يتولى مهمة منافسة العدالة والتنمية، فيما سيظل الشعب الجمهوري مجرد حزب كلاسيكي محدود التأثير في صفوف المعارضة.
ويشير أسمر، في حديث للجزيرة نت، إلى أن الانقسامات الداخلية الحادة داخل الحزب جعلت أعضاءه يكشفون أسرار بعضهم بعضا، وهو ما أفقده الثقة اللازمة للتقدم في الحياة السياسية أو مجابهة السلطة.
وبرأيه، فإن الحل يكمن في تأسيس حزب جديد يضم أعضاء مخلصين لبعضهم، “لأن الثقة عنصر أساسي في العمل السياسي، وقد فقدها الشعب الجمهوري سواء بين صفوفه الداخلية أو في نظر الشارع التركي”.
ويضيف المحلل أن عودة الفريق التقليدي بزعامة كمال كليجدار أوغلو إلى رئاسة الحزب من شأنها أن تدفع فريق أكرم إمام أوغلو إلى الانشقاق وتأسيس كيان سياسي جديد، مما يعزز احتمالات إعادة تشكيل خريطة المعارضة التركية في المرحلة المقبلة.