هل يمكن لمعادلات الرياضيات أن تصف شكل الكون كله، من أصغر الجسيمات إلى أبعد المجرات؟ سؤال يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى الخيال.
لكن دراسة حديثة أجراها فريق من فرنسا وألمانيا، نشرت في دورية “نوتيسيس أوف أميركان ماثيماتيكال سوسايتي”، كشفت أن الهندسة الجبرية، وهي فرع متطور من الرياضيات، قد تمثل المفتاح لفهم البنية العميقة للكون.
هندسة من نوع خاص
ما الهندسة الجبرية؟ ببساطة، هي فرع من الرياضيات يربط بين المعادلات الجبرية والأشكال الهندسية، فأي معادلة يمكن تمثيلها كخط أو سطح أو شكل في فضاء رياضي، والعكس صحيح، كل شكل هندسي يمكن وصفه بمعادلات.
ولأن الفيزياء نفسها تُكتب في صورة معادلات، مثل معادلات آينشتاين عن الجاذبية أو معادلات الكم التي تصف الجسيمات، فإذا استطعنا أن نرسم هذه المعادلات كأشكال هندسية، يصبح من الممكن “رؤية” القوانين الخفية بطريقة جديدة.
منذ منتصف القرن العشرين، اعتمد الفيزيائيون على ما يسمى مخططات فاينمان لتصوير التفاعلات بين الجسيمات. هذه المخططات أشبه برسوم كرتونية صغيرة تظهر كيف يقترب إلكترون من بروتون أو كيف تتبادل الجسيمات القوى.
لكن هناك مشكلة، مع زيادة تعقيد التفاعلات، حيث تصبح هذه المخططات مرهقة للغاية، وتحتاج حسابات ضخمة يصعب التعامل معها.

شكل جديد للكون
هنا ظهرت فكرة جديدة سُميت الهندسة الإيجابية، والتي تقول إنه بدلا من رسم خطوط متشابكة، يمكن تمثيل التفاعلات الجسيمية كأشكال هندسية في أبعاد عالية.
أحد هذه الأشكال يُعرف باسم “الأمبليتو هيدرون”، وهو شكل هندسي معقد يختصر في داخله احتمالات التفاعل بين الجسيمات، بطريقة أبسط من آلاف المخططات التقليدية.
يمكن تشبيه الأمر بقطعة موسيقى، بدلا من قراءة كل نوتة على حدة، ترى اللحن الكامل في مخطط واحد أنيق.
الخطوة المدهشة في الدراسة الجديدة أن هذه الأفكار لا تتوقف عند الجسيمات، فالدراسة الجديدة أوضحت أن الأدوات نفسها يمكن أن تُستخدم لفهم علم الكونيات، أي بنية الكون على أوسع نطاق.
فعند دراسة إشعاع الخلفية الكونية (وهو الضوء الباهت المتبقي من الانفجار العظيم)، يستخدم العلماء عادة إحصاءات معقدة لقياس تقلباته، ولكن باستخدام الهندسة الجبرية، أمكن تمثيل هذه التقلبات كأشكال هندسية تُعرف باسم “المتعددات الكونية”.
بهذا الشكل، يتحول فهمنا لبداية الكون من معادلات صعبة إلى صور هندسية يمكن التعامل معها بشكل بصري وأكثر وضوحا.

أصول المجرات
كذلك تعرض الهندسة الجبرية إجابة لتساؤل العلماء عن أصل النجوم والمجرات في الكون، فعندما بدأ الكون قبل 13.8 مليار سنة، لم يكن سوى حالة متطرفة من الطاقة والجسيمات الصغيرة جدا، وسؤال العلماء كان دائما: كيف تشكّلت الأنماط الأولى لتصبح مجرات ونجوما وكواكب؟
وحسب الدراسة، فبدلا من النظر إلى الجسيمات على أنها كيانات مستقلة تتصادم، يمكن النظر إليها كأجزاء من شكل هندسي كلي، هذا الشكل يحكمه مبدأ “الإيجابية”، أي أن جميع النتائج الممكنة للتفاعل تظل داخل فضاء محدد.
والنتيجة كانت أن قوانين الكون يمكن أن تُفهم كـ”سطح” هندسي بدلا من مجموعة معادلات منفصلة.
فيزياء جديدة
هذه النوعية من النتائج تفتح الباب لتبسيط الفيزياء، فالحسابات التي كانت تستغرق شهورا أو سنوات قد تختصر إلى خطوات أبسط بفضل تحويلها إلى صور هندسية.
كما أنها تفتح الباب لتوحيد الرؤية، فالأدوات نفسها تصف تفاعلات الجسيمات في مسرعات الطاقة، وتصف أيضا بنية المجرات في السماء، أي أن هناك لغة رياضية واحدة من الصغير إلى الكبير.
أضف لذلك أنها تفتح الباب لنقاش واسع حول الفكرة الجوهرية التي تقول إن الكون ليس فقط فيزيائيا، بل هو أيضا رياضي في بنيته العميقة. تماما كما أن قطعة موسيقى مكتوبة على نوتات، الكون قد يكون مكتوبا بلغة الهندسة الجبرية.