ويشير التقرير -الذي صدر يوم الاثنين- إلى أن التجربة الديمقراطية في أفريقيا تعرضت لتقويض منهجي بفعل برامج التكيف الهيكلي، والعقيدة النيوليبرالية، والترتيبات النقدية الاستعمارية الجديدة.
وتتناقض استنتاجات التقرير مع الافتراض القائل بأن التحرير السياسي يؤدي بالضرورة إلى الازدهار والمساءلة.
يقول سيلا، المستشار الفني السابق لرئاسة السنغال، “قد يكون لديك 10 مرشحين على ورقة الاقتراع، لكن من يفوز سيكون مقيدًا بنفس التقشف، ونفس عقيدة الخصخصة، ونفس أجندة التحرير الاقتصادي، السياسة الاقتصادية محددة سلفًا”.
من التكيف الهيكلي إلى الانتخابات بلا خيار
يرجع التقرير جذور أزمة الديمقراطية في أفريقيا إلى الثمانينيات والتسعينيات، عندما اجتاحت برامج التكيف الهيكلي التي صممها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي القارة.
ورغم أنها كانت تهدف ظاهريًا إلى استقرار الاقتصادات، إلا أنها فرضت تقشفًا ماليًا، وخصخصة للأصول العامة، وتحريرًا تجاريًا.
وقد تزامن هذا النهج الاقتصادي مع موجة من التحرير السياسي، حيث تحولت الأنظمة ذات الحزب الواحد إلى أنظمة متعددة الأحزاب.
لكن هذا التزامن كان سامًا، بحسب التقرير، فقد “استُبدلت الرصاصات بأوراق الاقتراع، لكن التعليمات الاقتصادية ظلت تأتي من واشنطن وباريس”.
ويضيف التقرير أن “الوعد المرتبط بالتحرير السياسي تم اختطافه بطريقة ما من قبل أجندة التحرير الاقتصادي الموازية ونتائجها الاجتماعية الرجعية”.
فالدول حصلت على حق التصويت، لكنها فقدت حق تقرير مصيرها الاقتصادي، ولذلك كانت النتيجة اتساع الفجوة بين السياسة الانتخابية وصنع السياسات.

ويقول التقرير إن الحكومات تتغير، لكن السياسات الاقتصادية الكلية تبقى متشابهة بشكل لافت، ويضيف التقرير “بالنسبة لكثير من المواطنين، لم تعد صناديق الاقتراع أداة للتغيير الحقيقي”.
يقول المحلل السياسي إيمان إيتوك لأفريكا ريبورت إن “الأفارقة حصلوا على حق التصويت، لكنهم لم يحصلوا على السلطة، استُبدلت الرصاصات بأوراق الاقتراع، لكن التعليمات الاقتصادية ظلت تأتي من واشنطن وباريس”.
يولي التقرير اهتمامًا كبيرًا للفرنك الأفريقي، العملة المرتبطة باليورو والتي تستخدمها 14 دولة في غرب ووسط أفريقيا، ويصفها سيلا بأنها “عملة استعمارية” لأن أسسها التي وضعت تحت الحكم الفرنسي لا تزال قائمة حتى اليوم.
ويقول التقرير إن الاتفاقيات القانونية تضمن أن وزارة الخزانة الفرنسية تحتفظ بالسيطرة النهائية، مما يحد من استقلالية سياسات دول الفرنك الأفريقي، ويضيف “كلما عصى القادة باريس، يتحول الفرنك الإفريقي إلى سلاح”.
عندما استولى المجلس العسكري في مالي على السلطة عام 2021، وفرضت العقوبات التي قطعت البلاد عن احتياطاتها، اكتشف كثير من الماليين مدى ضعف سيطرة حكومتهم على اقتصادها.
ويشير سيلا إلى أن التحولات الديمقراطية في أفريقيا، التي كانت تُعتبر إنجازات، بُنيت على أرضية هشة، وعلى النقيض، فإن غينيا التي تصدر عملتها الخاصة لم تكن عرضة لنفس التدخلات.
وهذا يعني -بحسب سيلا- أن دول الفرنك الأفريقي تظل معرضة للتدخل الخارجي الذي يواصل تقويض سيادتها.
يقول إيتوك “الفرنك الأفريقي ليس مجرد عملة، إنه قيد، وكلما شدّت الحكومة الحبل، شدّته باريس أكثر”.
عدم المساواة ومسألة الأرض
من أكثر أجزاء التقرير إثارة للجدل تحليله لعدم المساواة في أكثر الديمقراطيات الأفريقية احتفاءً، مثل جنوب أفريقيا وناميبيا وبوتسوانا، والتي تُصنف باستمرار كأكثر الدول استقرارًا وليبرالية.

ومع ذلك، فهي أيضًا من أكثر المجتمعات تفاوتًا في العالم، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنماط ملكية الأراضي الراسخة.
يستشهد سيلا بالباحث السياسي مايكل ألبرتوس، الذي أظهرت أبحاثه أن أكبر عمليات إعادة توزيع الأراضي في القرن الماضي حدثت تحت أنظمة استبدادية، بينما حافظت الديمقراطيات الليبرالية على امتيازات النخب بسبب القيود المؤسسية.
ويقول سيلا إن “هذا الاكتشاف يجبرنا على إعادة التفكير في الافتراض القائل بأن الديمقراطية الليبرالية هي دائمًا الطريق الأفضل نحو العدالة الاجتماعية”.
ويضيف “لا يمكنك القول إنها مناسبة للتنمية في جميع الظروف”، ويدعو التقرير بدلًا من ذلك إلى ما يسميه “الديمقراطية الجوهرية”، وهي نظام يتجاوز الانتخابات ليشمل مشاركة المواطنين الفعلية في القرارات الاقتصادية.
الشباب والنخب المسنّة ومعضلة الانقلابات
يسلط التقرير الضوء على الفجوة الجيلية المتزايدة في أفريقيا كمصدر آخر للسخط، فبينما تعد القارة صاحبة أصغر سكان في العالم، يبلغ متوسط أعمار قادتها الأطول خدمة 77 عامًا، أي 4 أضعاف متوسط أعمار مواطنيهم.

وقد وجدت دراسات متعددة أن هذا الانفصال يغذي الاستياء، ويفسر جزئيًا سبب ترحيب العديد من الشباب الأفارقة بالانقلابات العسكرية الأخيرة في منطقة الساحل.
فقد شهدت بوركينا فاسو ومالي والنيجر دعمًا شعبيًا للجنود الذين أطاحوا بالنخب المدنية الراسخة.
ومع ذلك، يحذر التقرير من تمجيد الانقلابات، فبينما قد تخفض مؤقتًا متوسط أعمار القادة، نادرًا ما تحقق الإصلاحات العميقة التي يطالب بها الشباب.
ومع ذلك، يقول سيلا إن هذه الظاهرة تعكس اليأس “إذا كنت شابًا، فإن الطريقة الوحيدة التي تتخيل بها أن تصبح رئيسًا هي حمل السلاح، هذه هي الحقيقة الصادمة”.
ما بعد صناديق الاقتراع: لسنا فقراء، بل نحكم بشكل سيئ
في جوهر التقرير دعوة لإعادة تصور الديمقراطية نفسها، فالانتخابات الرسمية، مهما كانت حرة ونزيهة، لا تكفي إذا لم تحقق العدالة الاقتصادية.

ويحذر سيلا من أن الشعوب المحبطة ستتجه بشكل متزايد إلى البدائل، سواء كانت رجالًا أقوياء أو جنودًا أو احتجاجات شعبية.
ما شكل الديمقراطية الجوهرية عمليًا؟
يقترح التقرير عدة أفكار:
خدمات عامة شاملة: الصحة والتعليم والإسكان والحماية الاجتماعية كحقوق مضمونة، ممولة من خلال استخدام أفضل لموارد أفريقيا.
آليات تشاركية: جمعيات المواطنين، الميزانيات التشاركية، ومنتديات أخرى لإشراك الناس مباشرة في صنع القرار.
إصلاح نقدي: تعزيز السيادة على العملات والأنظمة المالية لمنع الجهات الخارجية من فرض السياسات.
ويستند كل ذلك إلى قناعة بأن أفريقيا ليست فقيرة، بل تُدار بشكل سيئ، يقول سيلا “مع التخطيط الجيد، يمكن تلبية الاحتياجات الأساسية لجميع الأفارقة خلال جيل واحد، الموارد موجودة، ما ينقص هو الإرادة السياسية والقيادة”.
ويضع التقرير حجته في سياق عالمي متقلب، حيث تعيد المنافسة متعددة الأقطاب، والصدمات المناخية، وأزمات الديون تشكيل خيارات أفريقيا.

وبالنسبة لسيلا، فإن الأزمات السياسية -رغم زعزعتها للاستقرار- هي أيضًا لحظات لإعادة التفكير في الأنظمة الفاشلة.
ولا يدعو التقرير إلى التخلي عن الديمقراطية، بل إلى تحويلها، مؤكدًا أن المؤسسات الليبرالية المستوردة يجب أن تفسح المجال لنماذج تشاركية متجذرة في واقع أفريقيا.
ويقول إيتوك في الختام “يرسل الشباب الأفارقة رسالة واضحة: يريدون أن تعني الديمقراطية أكثر من مجرد حق التصويت، يريدونها أن تحقق الكرامة والفرص والسيادة، وإذا لم تفعل، فإن شرعية الأنظمة السياسية في أفريقيا ستستمر في التآكل”.