ووفق تقديرهم، فإن التحول في موقف ترامب يعكس رغبة واضحة في إنقاذ نتنياهو -المطلوب أيضا للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في القطاع- عبر تسوية إقليمية تفتح الباب لإنهاء الحرب وتعزيز مسار التطبيع في المنطقة، وترتيب المشهد الإقليمي بما يضمن مصالح واشنطن وتل أبيب.
وفيما تحدث ترامب عبر منصته “تروث سوشيال” عن “اتفاق وشيك” لإنهاء الحرب في غزة، قالت قناة “كان” الإسرائيلية إن منشورات ترامب ليست عفوية، بل هي جزء من خطة كبرى تستهدف إنهاء محاكمة نتنياهو، والتفرغ لإغلاق ملفات إقليمية كبرى تشمل غزة وإيران.
وفي هذا السياق، يرى الكاتب والمحلل السياسي أحمد الحيلة أن أداء الجيش الإسرائيلي في غزة يشير إلى مراوحة في الفشل، خاصة أن الوسائل العسكرية لم تحقق أي إنجاز فعلي في استعادة الأسرى أو كسر المقاومة، ما يفرض على صناع القرار التفكير في مخرج سياسي يحفظ ماء الوجه.
ويتقاطع هذا التقدير مع مضمون تسريبات إعلامية تحدثت عن خلافات داخل القيادة الإسرائيلية بشأن جدوى استمرار الحرب، خصوصا بعد أن أوصت هيئة الأركان السياسية باستثمار “الإنجاز الإيراني” في إنتاج مكاسب سياسية عبر صفقة تبادل أسرى، عوضا عن التورط في حرب طويلة بلا أفق.
واعتبر الحيلة، في حديثه لبرنامج “مسار الأحداث”، أن الحرب بين إسرائيل وإيران كانت مفصلية، وأن ترامب أدرك أن استمرار المواجهة في غزة قد يهدد الاستقرار الإقليمي، ولا سيما مصالح الطاقة الأميركية، ومن ثم بات يضغط باتجاه تسوية سياسية تشمل وقف الحرب.
فرصة انتخابية
كما أشار إلى أن نتنياهو يرى في “الإنجاز” الذي تحقق ضد إيران فرصة انتخابية، قد تمكّنه من الخروج من غزة دون أن يُحمَّل الفشل، وبالتالي الذهاب إلى انتخابات مبكرة مدعوما بانتصار خارجي وبتنازل داخلي عن الخيار العسكري الفاشل، تماشيا مع رأي عام إسرائيلي بات يفضل إنهاء الحرب والتوصل إلى صفقة.
في السياق ذاته، بدا أن توقيت الضربة على إيران منح نتنياهو فرصة ذهبية لترميم صورته المهتزة، والظهور بمظهر القائد المنتصر، ما يسمح له بإقناع جمهوره اليميني بضرورة إنهاء العمليات في غزة، دون أن يخسر شرعيته السياسية، أو يبدو متراجعا أمام ضغوط داخلية وخارجية.
ويعتقد الدكتور مهند مصطفى، الأكاديمي المختص في الشأن الإسرائيلي، أن الحرب على إيران مثّلت نقطة تحوّل في الحسابات الإسرائيلية، إذ كان نتنياهو قبل الضربة يتفادى إنهاء الحرب خشية سقوط حكومته، لكنه اليوم يتحرك بثقة أكبر، بعدما ثبت دعم اليمين له واستعداده لتبرير أي تسوية مقبلة.
اللافت أن المجلس الوزاري المصغر أنهى اجتماعه الأمني دون اتخاذ قرار حاسم بشأن مواصلة الحرب أو القبول بصفقة، وهو ما قرأه محللون باعتباره مؤشرا على وجود تباين داخل المؤسسة الحاكمة، خاصة مع إصرار وزراء من أقصى اليمين مثل سموتريتش وبن غفير على رفض أي اتفاق، ولو كان جزئيا.
ورغم هذه الاعتراضات، تشير المعطيات إلى أن نتنياهو لم يعد مكبلا بتحالفاته، وأنه مستعد للمضي نحو اتفاق يقضي بهدنة من 60 يوما، يتم خلالها التفاوض على وقف نهائي للقتال، بالتزامن مع استعادة الأسرى وعودة سكان المستوطنات المحاذية لغزة.
وفي ترجمة مختلفة للمعطيات، يذهب الباحث في الدراسات الإستراتيجية كينيث كاتزمان إلى أن ترامب يرى في نتنياهو شريكا أساسيا يمكن الرهان عليه، خاصة بعد نجاحه في ضرب إيران، وهو ما جعله أكثر استعدادا لتقديم تنازلات في غزة، كجزء من تفاهمات إقليمية تضمن إخراج حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من الحكم.
حقائق صلبة
لكن هذه التصورات الأميركية تصطدم -كما يوضح الحيلة- بحقائق ميدانية صلبة، أولها أن إسرائيل لم تنجح في تحقيق أي هدف من أهداف الحرب، لا تهجير السكان، ولا تدمير المقاومة، ولا فرض وقائع جديدة في غزة، ما يجعل فكرة فرض ترتيبات فوقية بلا موافقة فلسطينية أمرا غير واقعي.
الحديث عن ترحيل قادة حماس إلى 4 دول عربية -بحسب كاتزمان- لا يحظى بأي قبول على الأرض، لا من الحركة نفسها، ولا من الجهات الفلسطينية، التي أعلنت منذ البداية استعدادها للبحث في ترتيبات ما بعد الحرب دون إقصاء أو إملاء، على قاعدة أن حماس لن تحكم مستقبلا، لكنها لن تُلغى.
وفي هذا الإطار، يرى الحيلة أن قبول حماس بوقف إطلاق النار لا يعني اعترافا بالهزيمة، بل استجابة لمنطق التوازنات، تماما كما أن تصريحات رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، نفتالي بينيت، التي دعا فيها إلى إطلاق سراح الأسرى أولا ثم النظر في مستقبل الحركة، تعكس تحوّلا في عقلية القيادة الإسرائيلية.
وإذ يضغط ترامب باتجاه تسوية عاجلة، يعتقد مهند مصطفى أن نتنياهو ينظر الآن إلى إنهاء الحرب كفرصة لتعزيز فرصه الانتخابية المقبلة، مستندا إلى ما يسميه “الانتصار الإيراني”، ومراهنا على تحول إقليمي يتيح له دفع علاقات التطبيع إلى الأمام، بشرط ألا تتصدر حماس المشهد في اليوم التالي.
ويشير مصطفى إلى أن حكومة نتنياهو قد تقبل بإخراج حماس من السلطة دون تفكيك جناحها العسكري، مقابل ضمان حرية إسرائيل في تنفيذ ضربات عسكرية متى رأت تهديدا، وهو ما يقترب من النموذج الذي تتعامل به تل أبيب مع الجنوب اللبناني منذ انتهاء العدوان الأخير على لبنان.