الموقف السوري
كان طبيعيًا أن يتفاعل السوريون مع مجريات هذه الحرب، وأن تختلف مواقفهم حيالها، حيث اتخذ بعضهم موقف اللامبالي منها، فيما يترقب آخرون ما ستسفر عنه هذه المواجهة التصعيدية. ويساور كثيرًا منهم القلقُ من تداعيات الحرب على بلادهم، التي تحررت حديثًا من قبضة نظام الأسد البائد.
وكان المفاجئ لدى السوريين، وسواهم، هو حجم الهشاشة التي ظهر بها النظام الإيراني أمام الضربات الموجعة المتتالية وغير المسبوقة التي تلقاها، وطالت ليس مواقع نووية وعسكرية فحسب، بل قادة من كبار العسكريين في الجيش الإيراني، والحرس الثوري واستخباراته، وفيلق القدس، وعلماء ذرة وسواهم.
اللافت هو عدم صدور أي موقف رسمي عن الحكومة السورية حيال هذه المواجهة الطاحنة بين إسرائيل وإيران، في موقف قد يبدو مفهومًا لدى الكثير من المراقبين، بالنظر إلى الوضع الكارثي في سوريا، الذي ورثته الإدارة الجديدة من النظام السابق، ويستلزم القيام بجهود كبيرة من أجل التعافي، وإعادة إعمار ما خرّبه هذا النظام.
لذلك تحاول دمشق أن تنأى بنفسها بشكل كامل عن الحرب وتداعياتها؛ لأنه لا مصلحة لسوريا بالدخول في أي من تفاصيلها، كي تركز على محاولتها إطلاق عجلة التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، التي باتت تمثل شغلها الشاغل، وبالتالي فإن حربها الأساسية هي في الداخل من أجل بناء سوريا، ويتعين عليها تجنب تداعيات الحرب بين إسرائيل وإيران.
الآثار والتداعيات
تشير وقائع المواجهة العسكرية الدائرة بين إسرائيل وإيران إلى أنه على الرغم من أن سوريا ليست طرفًا فيها، فإنها ربما تكون من بين أكثر الدول تأثرًا بها، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على المستوى الاقتصادي أيضًا، حيث بات مطلوبًا من الحكومة السورية اتخاذ إجراءات لمنع ارتفاع مستوى التضخم، وأسعار السلع، والخدمات في الأسواق السورية.
إضافة إلى الآثار التي تطال مجمل النشاط الاقتصادي والتجاري في سوريا، والمتمثلة في تأجيل زيارات الوفود الاقتصادية والاستثمارية العربية، وإغلاق المجال الجوي في عدة دول في الإقليم، وخاصة المجاورة لسوريا، ما أفضى إلى توقف الحراك الدولي والإقليمي تجاه سوريا.
ولا شك في أن كل ذلك سيترك آثارًا على عملية نهوض الاقتصاد السوري المتهالك أساسًا نتيجة ممارسات النظام السابق.
الأخطرُ من الآثار الاقتصادية، الآثارُ المتصلة بموقع سوريا الجغرافي، مما جعلها تعيش بعض حيثيات المواجهة الإسرائيلية الإيرانية وإرهاصاتها، وذلك في ظل انتشار ادعاءات بأن سوريا فتحت مجالها الجوي لاعتراض الصواريخ والمسيرات الإيرانية، الأمر الذي نفته الحكومة السورية بشكل قاطع، حيث تعتبر أن ما يجري في الأجواء السورية يمثل انتهاكًا صارخًا لسيادة الدولة السورية من الطرفين؛ الإسرائيلي والإيراني، ويتجسد في قيام كل منهما بعمليات عسكرية في الأجواء السورية دون أي تفويض رسمي من السلطات السورية، وهو أمر مرفوض تمامًا، ويتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
الواقع هو أن السماء السورية الممتدة فوق المنطقة من محافظة درعا إلى القنيطرة وصولًا إلى محافظة طرطوس، تشهد تصعيدًا غير مسبوق منذ بداية المواجهة، إذ تحولت سماء المنطقة إلى مسار لعبور عشرات المسيرات والصواريخ، وسقط بعضها في مناطق سكنية، وأخرى في مناطق زراعية.
إضافة إلى سقوط خزانات وقود الطائرات، وبقايا صواريخ إيرانية تم اعتراضها من قبل الجانب الإسرائيلي وخلفت ضحايا ومصابين سوريين.
واستدعى ذلك توجيه وزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح نداء للسوريين في المناطق الجنوبية بـ “عدم التجمهر أو الصعود للأسطح لمراقبة ما يحدث، وذلك حفاظًا على سلامتهم”، مع تحذيرهم من “الاقتراب من أي جسم غريب أو حطام قد يسقط نتيجة الأحداث، وعدم لمسه، وترك التعامل معه لفرق الهندسة أو فرق إزالة مخلفات الحرب، والإبلاغ فورًا عن أي بقايا أو مخلفات حرب”.
الإجراءات
لم تعد سوريا ساحة للمواجهة بين إسرائيل وإيران مثلما كانت في عهد النظام السابق، فقد خرجت إيران ومليشياتها من سوريا بشكل نهائي مع سقوط النظام الأسدي، وتغيرت بعده وجهة سوريا بشكل جذري، وبالتالي تغير شكل المواجهة بين طهران وتل أبيب.
ظهر تغير الموقف السوري فور وصول الإدارة الجديدة إلى دمشق، حيث أعلنت أنها لن تدخل في سياسة المحاور الإقليمية؛ لأن تركيزها سيتمحور على إعادة بناء دولة جديدة قادرة على استعادة السيادة الوطنية، وبناء مؤسسات عسكرية وأمنية مهنية، بعيدًا عن أيدي المليشيات، أو المجموعات الخارجة عن القانون.
كان متوقعًا أن تحاول بعض المجموعات المسلحة إعادة خلق أرضية اشتباك مع إسرائيل في الجنوب السوري، كي تخلط الأوراق بالنظر إلى أن إسرائيل تعتبر ذلك أحد خطوطها الحمر الرئيسة، وتتخذ ذلك ذريعة لقيامها باعتداءات جديدة على سوريا.
وقد سبق لمجموعة تدعى “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا” (أولي البأس) أن تبنّت إطلاق مقذوفات صاروخية على منطقة الجولان المحتل من الجنوب السوري في بداية مطلع شهر يونيو/ حزيران الجاري، اتخذته إسرائيل ذريعة لقيامها بقصف مواقع في الجنوب السوري.
ومنعًا لتكرار مثل هذه المحاولات، اتخذت الحكومة السورية جملة إجراءات أمنية واحتياطات عسكرية؛ بغية الحفاظ على الساحة السورية ساكنة، وخارج لهيب النار المتبادلة عبر سمائها بين إيران وإسرائيل. ومع ذلك تخشى الحكومة السورية من أن تستغل خلايا نائمة تابعة لإيران الوضع الجديد لإشعال مواجهة مع إسرائيل.
لم تقتصر الإجراءات التي قامت بها الحكومة السورية على المنطقة الجنوبية في سوريا فقط، بل أرسلت تعزيزات عسكرية إلى الحدود مع كل من العراق ولبنان منذ بدء الحرب الإسرائيلية الإيرانية؛ تحسبًا لما قد تقوم به خلايا ومجموعات تابعة لإيران، حيث كشفت التطورات الأخيرة أن بقاياها ما تزال موجودة، ولم تكفّ عن محاولاتها تهريب الأسلحة والمخدرات، ونفذت بعض العمليات في الآونة الأخيرة في محافظة دير الزور، والمناطق الحدودية مع العراق ولبنان.
وبالتالي فإن الحكومة السورية مضطرة إلى صرف جزء من قدراتها من أجل ضبط الحدود، ومنع امتداد تداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى الداخل السوري؛ لأن ذلك قد يفضي إلى حدوث اختلالات بالوضع الأمني، ويمكن لقوى عديدة استغلالها من أجل ضرب الاستقرار في سوريا.
المستوى السياسي
ما يسجل على المستوى السياسي، هو الاتصال الذي أجراه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس السوري أحمد الشرع بعد اندلاع المواجهة الإسرائيلية الإيرانية، وركز فيه على نقطتين جوهريتين؛ أولاهما ضرورة تحييد سوريا عن هذا الصراع الإقليمي، والثانية توخي المزيد من الحذر في ظل الظروف الحالية، كي لا تستغل التنظيمات المتطرفة أو “العناصر الإرهابية” حالة الفوضى لتوسيع نشاطها في سوريا والمنطقة.
تكمن أهمية اتصال أردوغان بالشرع في أنه جاء بعد عدة اتصالات قام بها مع قادة في دول العالم، وخاصة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما يعني حصول توافق أميركي تركي حول ضرورة إبعاد سوريا عن الصراع الدائر في المنطقة.
ويلتقي ذلك مع توجه الحكومة السورية للنأي بنفسها عن الصراع، والعمل على منع ارتداداته على الداخل السوري، الأمر الذي وفّر لها التنسيق مع تركيا من أجل إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحدود مع كل من العراق ولبنان، وبما يتسق مع ما ترغب به الولايات المتحدة، مما يصبّ في صالح التقارب السوري الأميركي، خاصة بعد رفع العقوبات الأميركية عنها وتطبيع العلاقات.
ولا يبتعد كل ذلك عن المتغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة اصطفاف القوى فيه وفق المعطيات الجيوسياسية الجديدة.