Published On 2/10/2025
|
منذ اللحظات الأولى لميلاد الطفل، يبدأ في تكوين رابط عاطفي عميق مع والديه، وهو ارتباط لا يقوم على اللغة أو الإدراك الواعي بقدر ما يستند على إشارات سلوكية بسيطة تنقل الأمان والمحبة. هذا الرابط المبكر يشكل حجر الأساس للاستقرار النفسي، ويؤثر لاحقًا في تطور الطفل الاجتماعي وقدرته على بناء علاقات صحية.
لغة الحب الأولى
ورغم أن الرضيع لا يمتلك لغة الكلام بعد، فإنه يعبر عن مشاعره بطرق فطرية متجذرة في عالمه الحسي والعاطفي قبل أن ينضج إدراكه اللغوي. هذه الإشارات الأولية تعزز إحساسه بالأمان وتعمّق صلته بالأبوين. وتشير أبحاث في علم النفس التطوري وعلم الأعصاب التنموي إلى أن مثل هذه التفاعلات تسهم بشكل مباشر في نمو الطفل العاطفي والاجتماعي والإدراكي.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
فقد بينت دراسة كندية نشرت عام 2022 في مجلة “آفاق في الطب النفسي” (Frontiers in Psychiatry) أن التفاعلات بين الرضيع ومقدّم الرعاية -مثل الاستجابة لانفعالاته، والقدرة على مواكبة مشاعره، والتواصل الاجتماعي المتزامن- تسهم في تنمية مهارات الانتباه والتنظيم العاطفي والذاكرة والوظائف التنفيذية، مما ينعكس إيجابًا على نموه الشامل.
كيف يُظهر الرضيع الحب والثقة؟
-
التواصل البصري
يُعد التواصل البصري من أولى إشارات الارتباط العاطفي لدى الرضع، إذ يثبتون أنظارهم على وجوه والديهم كطريقة للتفاعل وإبداء الثقة. هذه النظرات ليست مجرد فعل عابر، بل تمثل عنصرًا أساسيا في نموهم العصبي والاجتماعي.
فقد كشفت دراسة أُجريت في جامعة كامبريدج عام 2017 ونُشرت في المجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم “بي إن إيه إس” (PNAS) أن تبادل النظرات بين الأم ورضيعها يؤدي إلى تنسيق الموجات الدماغية بينهما، مما يعزز فرص التعلم. كما أظهرت أبحاث أخرى أن تكرار النظر المتبادل يرتبط بجودة التفاعل العاطفي وشعور الطفل بالأمان، ويساعد أيضًا على تهدئته عند التوتر. ولهذا تُعد العيون نافذة أولى للحب وأداة رئيسية في بناء الروابط العاطفية المبكرة.
-
الابتسامة الاجتماعية
بعد أسابيع قليلة من الولادة، يبدأ الرضيع بإظهار ما تعرف بالابتسامة الاجتماعية، وهي ليست مجرد رد فعل انعكاسي، بل محاولة واعية للتواصل مع والديه والتعبير عن الفرح والراحة. وتمثل هذه اللحظة محطة أساسية في تطوره العاطفي، إذ تعكس إدراكه الأول للعلاقة مع من يحيطون به، وقدرته على التعبير عن مشاعره بوضوح، الأمر الذي يعزز الروابط العاطفية مع والديه ويُمهّد لتواصل أعمق في المراحل اللاحقة.
-
الأصوات الأولى والمحاورات الصغيرة
تُعد الأصوات التي يُصدرها الرضيع مثل الهديل والثرثرة الصغيرة بمثابة لغته الأولى قبل الكلمات، فهي وسيلته الطبيعية للتفاعل وإظهار رغبته في التواصل، وكأنه يشارك من حوله حوارًا بسيطا. ويُظهر الرضع استجابة خاصة للكلام الهادئ المصحوب بنبرة محبة، كما يتمكنون من تمييز صوت والديهم ورائحة الأم، مما يمنحهم شعورًا عميقا بالأمان والاطمئنان. هذه التفاعلات المبكرة لا تعزز فقط الرابط العاطفي، بل تضع أيضًا الأساس لنمو اللغة لاحقًا عبر بناء شبكات عصبية ضرورية للتعلم والتطور.

-
البحث عن التقارب الجسدي
يُظهر الرضيع حاجته للحنان والطمأنينة الجسدية عندما يلجأ إلى حضن من يعتني به عند شعوره بالخوف أو الانزعاج؛ فينخفض توتره ويهدأ بكاؤه، في إشارة واضحة إلى حاجته للحب وثقته في والديه. كما يعبّر عن فرحه برؤيتهما من خلال ابتسامته وملامح وجهه المضيئة، ومحاولته الاقتراب منهما بحماس، مما يعكس قوة الارتباط العاطفي بينهما.
ويُعد اللمس والاحتضان والتواصل الجلدي المباشر وسيلة عميقة لتعزيز الأمان وترسيخ الروابط مع مقدمي الرعاية. وقد أظهرت دراسة أُجريت في جامعة كولومبيا البريطانية عام 2017 أن مستوى التواصل الجسدي المبكر يترك أثرًا بيولوجيا طويل المدى، حيث لوحظ أن الأطفال المحرومين من هذا القرب أظهروا علامات نمو جزيئي غير مكتمل في خلاياهم وحمضهم النووي مقارنةً بأقرانهم.
-
الذعر عند الغياب
أما بكاء الطفل عند مغادرة أمه أو أبيه فيُعد تعبيرًا طبيعيا عن قلق الانفصال، وهي مرحلة أساسية في النمو تكشف إدراكه بأن من يمنحه الأمان يختلف عن الآخرين، وتظهر بدايات وعيه بمفهوم “ثبات الأشياء”؛ أي أن الأشخاص والأشياء يظلون موجودين حتى لو غابوا عن نظره. هذا الوعي المبكر يجعله يتألم عند رحيل والديه، لكنه يتعلم مع مرور الوقت أن غيابهما مؤقت وأنهما سيعودان. في مثل هذه اللحظات، يحتاج الطفل إلى كلمات رقيقة وطمأنة حنونة تؤكد له أن هناك دائمًا من يرعاه، مما يعزز ثقته بنفسه ويقوي شعوره بالأمان.
-
التقليد رسالة حب صامتة
يُعد التقليد من أبرز الوسائل التي يستخدمها الرضع للتعبير عن مشاعرهم وارتباطهم الوثيق بمقدمي الرعاية. فهم يعكسون تعابير الوجه، ويكررون الأصوات والحركات، وأحيانًا يحاكون حتى أبسط تفاصيل السلوكيات اليومية لوالديهم، في محاولة للتفاعل والاندماج مع من يحبون. وتشير أستاذة علم النفس في جامعة ليهاي ببيت لحم بنسلفانيا الدكتورة ديبي ليبل، في مقال بموقع بارنتس الأميركي، إلى أن هذا السلوك يمثل رسالة حب غير منطوقة، تؤكد قدرة الرضع على بناء الروابط وتعزيز مشاعر الألفة والأمان.
ممارسات تعزز شعور الرضيع بالأمان والمحبة
تسهم بعض الممارسات اليومية البسيطة في ترسيخ شعور الرضيع بالطمأنينة ودعم نموه العقلي والعاطفي. فالتلامس الجسدي واللمسات الحنونة بعد الولادة يحفزان إفراز هرمون الأوكسيتوسين، المعروف بتأثيره المهدئ والمخفف للتوتر. كما أن الحديث بنبرة هادئة أو الغناء بلحن بسيط يمنح الطفل شعورًا بالألفة، ويساعده في الوقت نفسه على تطوير مهاراته اللغوية المبكرة.
وتبرز أيضًا أهمية الاستجابة السريعة واللطيفة لاحتياجاته -سواء كان جائعًا أو خائفًا أو منزعجا- في تعزيز ثقته بمقدمي الرعاية وشعوره بالأمان. إضافة إلى ذلك، يُعد الروتين اليومي المنتظم في النوم والرضاعة والنظافة وسيلة فعالة لإكساب الطفل إحساسًا بالاستقرار وقدرة على توقع ما سيحدث. أما اللعب التفاعلي، مثل الابتسامات المتبادلة أو الألعاب البسيطة أو الأغاني المصحوبة بالتفاعل كـ”الغميضة”، فهو لا يقل أهمية في تقوية الروابط العاطفية وتشجيع التواصل الإيجابي.
تأثير المحبة المبكرة على النمو
إن شعور الطفل بالمحبة والأمان في سنواته الأولى لا يُعد مجرد تجربة عاطفية عابرة، بل يمثل ركيزة أساسية لنموه العقلي والاجتماعي. فبحسب مركز هارفارد لتنمية الطفل، يتمتع الأطفال الذين يحظون برعاية دافئة ومتواصلة بدرجات أعلى من الأمان العاطفي، مما ينعكس على ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين مستقبلًا.
كما يساهم التفاعل الحنون في تعزيز الروابط العصبية داخل الدماغ، الأمر الذي يحسن القدرات المعرفية ويقوي مهارات التعلم. كذلك، يلعب الحب المبكر دورًا مهما في تنمية المهارات الاجتماعية وزيادة القدرة على مواجهة الضغوط.
العلاقة بين الرضيع ووالديه تتجاوز كونها مسؤولية بيولوجية لتصبح بناءً يوميا يتشكل عبر تفاصيل صغيرة مثل النظرات واللمسات والأصوات وأشكال التفاعل البسيطة. هذه اللحظات المتكررة تشكل الأساس النفسي والعاطفي للطفل.
ورغم أن الرضيع لا يعبر عن مشاعره بالكلمات، فإن محبته تظهر في سلوكياته الفطرية، وفهم هذه الإشارات والاستجابة لها باستمرار يعزز الروابط العاطفية، ويدعم نموه الاجتماعي والعاطفي والعصبي على المدى الطويل.