حين يتحدث العالم اليوم عن “القرن الآسيوي”، فإن إندونيسيا باتت واحدة من رموزه الأكثر بروزا.
بلد يمتد على أكثر من 17 ألف جزيرة، كان ينظر إليه لعقود كأمة نامية مثقلة بالفساد والانقسامات، فإذا به يتحول خلال عقدين إلى قوة اقتصادية صاعدة ضمن مجموعة العشرين G20، وواحد من أكثر الأسواق ديناميكية في آسيا.
القفزة الإندونيسية لم تكن صدفة، بل ثمرة إصلاحات عميقة، ورؤية إستراتيجية حول كيفية تحويل التنوع الجغرافي، والديمغرافي إلى مصدر قوة.
فكيف نجحت جاكرتا في الانتقال من اقتصاد هش يعتمد على المواد الأولية إلى اقتصاد متنوع يقود الصناعة الرقمية والطاقة الخضراء؟ وما العوامل الداخلية والخارجية التي مكنت الجزر المتناثرة من التحول إلى سوق عالمي متكامل؟
بدايات الصعود
عانت إندونيسيا منذ استقلالها 1945 من مشاكل بنيوية عميقة كالفساد الإداري، ضعف البنية التحتية، تفاوت الثروة بين الجزر الكبرى (جاوة، سومطرة، بالي) والمناطق النائية، والاعتماد المفرط على تصدير المواد الخام كالنفط والفحم والنخيل.
وفي عهد سوهارتو (1966-1998)، اعتمد النظام على “نمو موجه من الأعلى”، حيث ارتكز الاقتصاد على الموارد الطبيعية والاستثمارات الأجنبية، لكن الفساد والمحسوبية خنقا الإنتاجية، وانفجرت الأزمة الآسيوية عام 1997 كاشفة هشاشة البنية الاقتصادية.
غير أن سقوط سوهارتو مثل بداية تحول تاريخي، حيث اتجهت البلاد نحو انفتاح سياسي واختارت نظاما لا مركزيا، واعتمدت إصلاحات اقتصادية جعلت من الاقتصاد الإندونيسي أكثر شفافية ومنافسة.
وانطلاقا من العام 2000، كانت إندونيسيا على موعد مع تحول بنيوي، حيث عمقت الإصلاحات الاقتصادية والمالية، فركزت على تحرير الاقتصاد، وتسهيل الاستثمار، وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط والفحم، وتحسين الحوكمة ومحاربة الفساد.
وبعد عقود من المركزية الخانقة، أقرت إندونيسيا عام 2014 قانون القرى الذي نقل الموارد والقرار إلى القاعدة، حيث تم تخصيص ما يقارب 10% من الموازنة الوطنية كمنح مباشرة تودع في حسابات القرى، ليصرف المال محليا على الطرق، والمشاريع الإنتاجية، والخدمات الاجتماعية.
بهذا القانون ولدت سياسة تمويل القرى (Dana Desa) التي غيرت وجه التنمية في البلاد. فبين عامي 2015 و2024 تدفق إلى القرى أكثر من 600 تريليون روبية، واستفادت منها أكثر من 80 ألف قرية.
فخلال أقل من عقد، أُنشئ أكثر من 260 ألف كيلومتر من الطرق الريفية وآلاف الجسور، وانخفض عدد الفقراء الريفيين بمقدار 2.6 مليون شخص. ولم تعد القرية وحدة تابعة تنتظر أوامر العاصمة، بل مركز قرارٍ مستقلٍ يملك ميزانيته وصوته.
هذه المؤشرات خلقت مناخا جديدا للانطلاق نحو تنمية حقيقية وشاملة، بل مثلت على الأصح، ملامح، قصة تحول اقتصادي عميق في إندونيسيا، حيث انطلقت النهضة من القرية لا من القصر، وتحولت القرى إلى محركات إنتاج مرتبطة بالسوق العالمي.
ولتفعيل كل هذا أُنشئت “هيئة تنسيق الاستثمار الإندونيسية” لتبسيط الإجراءات أمام المستثمرين، وخفضت الضرائب تدريجيا لجذب الشركات متعددة الجنسيات. كما جرى تعديل القوانين لتشجيع الشراكات بين القطاعين: العام والخاص، في مجالات النقل والطاقة.
ويعد انتقال صلاحيات الإنفاق والإدارة من جاكرتا إلى الحكومات المحلية من أهم أسباب النجاح. وهذه الخطوة، رغم مخاطرها، سمحت بتسريع التنمية في الأقاليم وتحويل الجزر البعيدة والمهمشة إلى مراكز نمو جديدة.
كما أن الإصلاحات السياسية، جعلت من إندونيسيا ديمقراطية مستقرة نسبيا في محيط مضطرب، وهو ما مكنها من استيعاب تنوعها الديني والعرقي عبر دستور معتدل، مع الحفاظ على هوية وطنية موحدة تقوم على شعار: “الوحدة في التنوع”.
ولعل كل هذه الإصلاحات التي تكاثفت، هي ما ساهمت بشكل كبير في تعزيز ثقة المستثمرين ونهضة البلاد.
اقتصاد الجزر المتكامل
مثل التحول الإندونيسي شكلا فريدا لكونه لم يعتمد على نموذج “المركز الواحد”، بل سار على نهج الاقتصاد الشبكي بين الجزر. حيث أصبحت كل جزيرة تملك ميزة وخاصية تساهم من خلالها في تنمية البلاد. فـ”جاوة” تحولت إلى مركز للتصنيع والتكنولوجيا، بينما تخصصت “سومطرة” في الطاقة والزراعة و”كاليمنتان” بالتعدين والنفط و”سولاويس” بالنيكل والمعادن الإستراتيجية، وتميزت “بالي” بالسياحة والخدمات الرقمية. حيث تجاوز عدد الزوار 16 مليون سائح سنويا قبل الجائحة، مع طموح لبلوغ 25 مليونا بحلول 2030.
ومن خلال ربط هذه الجزر بشبكات نقل وموانئ حديثة، أنشأت جاكرتا منظومة اقتصادية متكاملة حولها، أشبه بـ”سلسلة توريد داخلية” تغذي بعضها بعضا، مما قلل من الاعتماد على الخارج.
فإندونيسيا اليوم هي أكبر اقتصاد رقمي في جنوب شرق آسيا، حيث يتجاوز حجم تجارتها الإلكترونية مليار دولار سنويا؛ بفضل شركات محلية مثل (Tocopedia, Gojek Bukalapak). فهذه الشركات لم تنقل فقط نموذج الاقتصاد الشبكي إلى السوق المحلي، بل خلقت ملايين الوظائف للمواهب الشابة.
أما على مستوى التصنيع، فلم تعد إندونيسيا تكتفي بتصدير المواد الخام، بل بدأت في تصنيعها محليا. فهي اليوم أكبر منتج عالمي للنيكل، المكون الأساسي في بطاريات السيارات الكهربائية، وتسعى لبناء سلسلة إنتاج متكاملة من التعدين إلى التصنيع، بالتعاون مع كوريا الجنوبية، والصين. فإندونيسيا تستثمر في التحول إلى مركز عالمي لإنتاج البطاريات والطاقة النظيفة.
كل هذا ساعد على التحول إلى سوق عالمي ليس فقط بسبب موقع إندونيسيا الجغرافي أو عدد سكانها (أكثر من 280 مليون نسمة)، بل لأنها تبنت فلسفة جديدة، فالشركات الإندونيسية لا تكتفي بتلبية الطلب الداخلي، بل تصدر إلى آسيا، وأوروبا، وأفريقيا.
كما أصبحت جاكرتا مركزا ماليا إقليميا بفضل الإصلاحات البنكية وإطلاق مشاريع “الروبية الرقمية”؛ لتعزيز المدفوعات الإلكترونية.
كما اتجهت إلى الاستثمار في رأس المال البشري باعتباره ركيزة النمو. فأنشأت جامعات تقنية ومراكز تدريب في جميع الأقاليم؛ لتلبية احتياجات السوق الصناعي، وتم إطلاق مبادرة “1000 مهندس وطني سنويا” بدعم من القطاع الخاص.
السياسية الخارجية.. الحياد والفاعلية
تبنت إندونيسيا سياسة خارجية تقوم على “الاستقلال الفعال”؛ أي الحفاظ على الحياد بين القوى الكبرى، مع تعظيم المكاسب. فهي شريك تجاري للصين، ومستثمر مهم للولايات المتحدة، وعضو نشط في “الآسيان” وهي رابطة تضم دول جنوب شرق آسيا، وعضو في “مجموعة العشرين”.
وهذا التوازن منحها قدرة على جذب الاستثمارات دون الانحياز السياسي الكامل لأي محور. كما أنها لعبت دورا مهما في الدفاع عن مصالح الدول النامية داخل منظمة التجارة العالمية، مما عزز مكانتها الدولية.
السياحة وهشاشة الفقراء
رفعت السياحة الدخل في جزر مثل بالي، لكنها خلقت أيضا اقتصادا هشا يعتمد على الأجانب، ودفعت إلى تفكك اجتماعي واضح. فوراء المنتجعات الفاخرة تقف طبقة من العمال الفقراء يخدمون الصناعة السياحية بأجور زهيدة.
إندونيسيا ومعركة الاستقلالية
في تسعينيات القرن الماضي، انهارت العملة الإندونيسية، وفُرضت على البلاد وصفة التقشف من المؤسسات المالية الغربية من خصخصة وتقليص الدعم وفتح السوق أمام الشركات الأجنبية، وهي الوصفة التي مزقت اقتصادها مؤقتا وأشعلت اضطرابات أزاحت سوهارتو عن الحكم.
لكن التجربة المريرة تركت درسا عميقا، فالاستقلال الحقيقي لا يتمثل في مجرد التغني بالرموز السيادية، بل في القدرة على رسم الطريق الاقتصادي، دون خضوع للإملاءات الغربية.
وحتى اليوم، ما زالت الشركات الغربية تحاول الهيمنة على ثروات الجزر من مناجم النيكل والكوبالت، إلى أشجار النخيل التي تنتج زيتا يغذي المصانع الأوروبية.
ومع ذلك، تدير الحكومة معارك تفاوضية صعبة لتحويل هذه الثروات إلى قيمة مضافة محلية. فتصدير النيكل الخام تم إيقافه عام 2020، وفرضت على الشركات بناء مصانع داخل البلاد. والنتيجة، تضاعفت إيرادات القطاع، وبدأت جاكرتا تفرض شروطها على العالم.
على سبيل الختم
لم تنجح إندونيسيا نتيجة صدفة، بل جاء ذلك بقرارات واعية تفيد بأن التنمية الحقيقية تبدأ من القاع، وبأن التحرر لا يقاس بالاستقلال السياسي فقط، بل بالاستقلال في التفكير والتمويل والإنتاج.
فالبلاد نجحت في أن تحول جغرافيتها المبعثرة إلى شبكة اقتصادية متماسكة تربط آسيا بأوقيانوسيا والعالم العربي وأفريقيا.
وإذا سارت إندونيسيا على نفس النهج الإصلاحي، فقد تتحول خلال عقدين إلى أحد أهم الاقتصادات العشرة الأولى عالميا. إنها قصة دولة علمتنا أن الموقع الجغرافي لا يحدد المصير، بل الرؤية والإرادة والقدرة على تحويل الحدود الطبيعية إلى جسور للفرص.
فحين تمتلك القرى مواردها، تبدع حلولها، وتشارك في رسم مصيرها، وتصبح التنمية عضوية لا تجميلية.