Published On 19/9/2025
|
في الروضات اليابانية، عندما ينشب خلاف بين طفلين -حتى لو تطور إلى الضرب- لا يسارع المعلم إلى التدخل، بل يكتفي بالمراقبة ما لم يتحول الموقف إلى خطر حقيقي. هذا النهج، المعروف باسم منهج “ميمامورو”، يقوم على إيجاد مسافة مدروسة بين الأطفال والمعلمين، إذ يوازن الأخيرون بين المراقبة والحماية من جهة، وترك مساحة للتجربة والتعلم من جهة أخرى.
وبدلا من الاعتماد على أسلوب المكافأة والعقاب، يسعى المعلمون إلى تعزيز الدافع الداخلي للتعلم عبر التفاعلات الاجتماعية اليومية. فيخلقون بيئة آمنة تسمح للأطفال بتكوين علاقات دافئة، وتنمية مهارات التواصل، وبناء مشاعر إيجابية مثل التعاطف والتعاون، إلى جانب تنمية الاستقلالية وتحمل المسؤولية.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
ورغم أن التفاعلات تظل تحت عين المربين، فإن تدخلهم لا يحدث إلا عند تصاعد الخلاف إلى شجار جسدي خطير. أما في غير ذلك، فيُتركون لخوض التجربة كاملة والتوصل إلى حلول بأنفسهم، بما يعزز مشاركتهم الاجتماعية ويقوي مهاراتهم المعرفية والحياتية.
كيف يتصرف المعلمون؟
يُمنح الأطفال في الروضات اليابانية مساحة واسعة للتفاعل بحرية، في حين يراقب المعلمون بعناية لتحديد اللحظة التي يصبح التدخل فيها ضروريا لحماية أحدهم من خطر جسدي. وحتى في حال التدخل، يقتصر الأمر على الحد الأدنى لإبعاد الخطر، بينما يُترك للأطفال اختبار عواقب النزاع، ليكتشفوا بأنفسهم أن الألم الجسدي لا يحل المشكلات، وأن الإحباط والشعور بالذنب جزء من رحلة التعلم.
في بعض الحالات، يقرر المربي إيقاف الشجار الجسدي إذا أصبح خطرا، لكنه ينسحب بهدوء بعد ذلك تاركا مهمة الحل للأطفال أنفسهم. يقوم هذا المنهج على الثقة بـ”الخير الفطري” لدى الصغار، كما أوضحت دراسة نشرتها مجلة “التربية في مرحلة الطفولة المبكرة” (Early Childhood Education Journal) عام 2022، مشيرة إلى أن نجاح هذا الأسلوب يتطلب مراقبة دقيقة وصبرا وحكمة للتدخل فقط حين يصبح الخطر أكبر من الفائدة التربوية.
وعلى عكس أنظمة أخرى تحاول منع أسباب الخلاف، لا يسعى المربون اليابانيون إلى تجنّب الشجارات من الأساس؛ فلا يوفرون ألعابا بعدد كبير للأطفال مثلما قد يحدث في المنزل، بل يتعمدون أن تكون محدودة، كي يضطر الأطفال إلى التفاعل والمشاركة والاختلاف.
والسؤال الذي يظل حاضرا في ذهن كل معلم هو: هل تدخلي هنا ضروري؟ وإذا تدخلت، فما الفرصة التي قد يخسرها الأطفال لتعلم كيفية حل مشكلاتهم بأنفسهم؟

يمنح المعلم الأطفال مساحة واسعة لخوض تجاربهم الخاصة في حل المشكلات، فيتعلمون من مشاعر الإحباط والحيرة والعجز المؤقت. ولا يتدخل المربي إلا عند وجود خطر حقيقي يهدد الطفل، أو لدفع النقاش خطوة إلى الأمام، ثم يتراجع بهدوء ليستأنف المراقبة من مسافة قريبة تتيح المتابعة.
وقد يبدو التدخل السريع أسهل للمربين، لكنه يتعارض مع جوهر منهج ميمامورو الذي يقوم على الصبر والمراقبة، وترك الأطفال يفكرون ويتواصلون حتى يجدوا الحل بأنفسهم. فالتعجيل بحل النزاعات يرسل رسالة ضمنية بأن الأطفال غير مسؤولين عن سلوكهم، وأن الكبار هم من يتحملون مهمة معالجة الخلافات.
يضبط المعلمون حضورهم داخل الصف بحيث يشعر الأطفال بالحرية والأمان في الوقت ذاته. هذا “الاتصال الآمن” يطمئنهم إلى أنهم محاطون بالدعم والحماية، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أنهم محل ثقة. فعدم التدخل هنا لا يعني الإهمال، بل متابعة دقيقة بتدخلات محدودة، مثل تذكير الأطفال بخفض حدة العنف دون فرض إيقاف كامل للموقف.
ويعتمد المربون كذلك على الإيماءات والتواصل البصري، لتوصيل رسائل غير مباشرة للأطفال: “أنا أراك”، “أنت محل ثقة”، “أنا أدعمك”، “لا تقلق”. وبهذا يظل الأطفال أحرارا في التفاعل، لكنهم مدركون مسؤوليتهم عن أفعالهم.
إنها عملية دقيقة تتطلب مهارة عالية لتحقيق التوازن بين إتاحة الفرصة للطفل لاختبار تعقيدات العلاقات الاجتماعية وتعلم الدروس، وبين ضمان ألا يتعرض للأذى.

ماذا يستفيد الأطفال؟
تتيح هذه الطريقة للصغار اختبار طبيعة الحياة داخل الجماعة، إذ لا تسير الأمور دائما وفق رغباتهم. فقد يكون الطفل معتديا في يوم، ومُعتدى عليه في يوم آخر، أو وسيطا يحاول حل خلاف بين أقرانه. ومن خلال تبادل الأدوار، يتعرف الأطفال إلى طيف واسع من المشاعر، ويتعلمون مهارات التفاوض، وحل المشكلات، والتعاطف، واتخاذ القرار. وهذه تجارب نادرة بالنسبة لكثير من الأطفال المعاصرين الذين ينشأ معظمهم من دون أشقاء.
الحد من تدخل الكبار يمنحهم فرصة لاختبار الألم الجسدي، والشعور بالذنب، والحاجة إلى الاعتذار، فيدركون أن العنف لا يحل الخلافات، وأن الاعتذار الحقيقي ينشأ من الندم لا من الإكراه. وفي أحيان أخرى، يبادر طفل ثالث بالتدخل لحل المشكلة، ما يعزز قيم الاستقلالية وتحمل المسؤولية.
أما حين يسارع البالغون إلى التدخل، غالبا ما ينتهي الموقف باعتذار شكلي يفتقد المعنى، بل قد يؤدي الحكم على السلوك بالصواب أو الخطأ إلى تصنيف الأطفال إلى “جيدين” و”سيئين”، وهو ما يضر بعلاقاتهم.
وعندما يُتركون ليتفاعلوا بحرية، يبتكر الأطفال قواعدهم الخاصة في إدارة النزاعات، مثل تبادل الأدوار في اللعب أو تقسيم الوقت على الألعاب، الأمر الذي يرسخ بينهم علاقات أقوى وأكثر نضجا.