• Home  
  • قميص ابن يعقوب والمنهج الإصلاحي في إدارة الدولة
- مدونات

قميص ابن يعقوب والمنهج الإصلاحي في إدارة الدولة

بدأت سورة يوسف بامتنان الله تعالى على الناس بإنزال القرآن عربيًا ليعقل الناس ما جاء فيه  ﴿نحن ‌نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾ [يوسف: 3-4]، وهي بداية تنم عما تحتويه السورة العظيمة للنبي المكرم الذي قال عنه النبي ﷺ: ” الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف […]

15da6ef3 69cd 4ce6 9d2b 39cb9008b7f9
بدأت سورة يوسف بامتنان الله تعالى على الناس بإنزال القرآن عربيًا ليعقل الناس ما جاء فيه  ﴿نحن ‌نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾ [يوسف: 3-4]، وهي بداية تنم عما تحتويه السورة العظيمة للنبي المكرم الذي قال عنه النبي ﷺ: ” الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق” [البخاري 4688]، فاحتوت السورة قصة يوسف عليه السلام كاملة، وهي تحكي أوّل ظهور سياسي لبني إسرائيل، فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وبنوه هم من عرفوا بعد ذلك ببني إسرائيل والذين تفرعوا أسباطًا وأممًا بعد ذلك، وهي قصة فيها من العبر الكثير، نقف في هذه المقالة على بعض التأملات فيها.

ورد في الموضع الثالث بأمر يوسف عليه السلام إخوتَه بإلقاء القميص على وجه أبيه ليرتد إليه بصره، فقال: ﴿اذهبوا ‌بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا وأتوني بأهلكم أجمعين﴾ [يوسف: 93]

أولًا: قميص يوسف

عند التأمل في السورة نجدها تذكر القميص ثلاث مرات، وفي كل منها كان القميص شاهدًا على واقعة واستخدمه أحد الأطراف لصالحه، وقد ورد في الموضع الأول في حادثة عودة إخوة يوسف لأبيهم يبكون، وقد جاؤوا معهم بشاهد ليصدق دعواهم وهو قميص يوسف، قال تعالى: ﴿وجاؤوا على ‌قميصه بدمٖ كذب﴾ [يوسف: 18] فكان حكم والدهم يعقوب عليه السلام: ﴿بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون﴾ [يوسف: 18].

ثم ورد في الموضع الثاني في قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، قال تعالى: ﴿‌وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك﴾ [يوسف: 23]، ثم اتهمته بإرادة السوء بها، وأنكر يوسف، فطلب العزيز شاهدًا ليشهد لصدقها أو يشهد على كذبها، وقد توصلوا لما يمكن أن يكون دليلًا على صدق أحدهما: ﴿وشهد شاهدٞ من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين﴾ [يوسف: 26]، فرجعوا إلى القميص فإذا هو قد قُد من دبر، قال تعالى: ﴿فلما رأى قميصه قد من دبرٖ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم﴾ [يوسف: 28]، وقد تبينت الآيات وعرف صدق يوسف، عليه السلام، لكنه لم يسلم من السجن، قال تعالى: ﴿ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين﴾ [يوسف: 35].

وورد في الموضع الثالث بأمر يوسف، عليه السلام، إخوته بإلقاء القميص على وجه أبيه ليرتد إليه بصره، فقال: ﴿اذهبوا ‌بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا وأتوني بأهلكم أجمعين﴾ [يوسف: 93].

فقد ذكر القميص في القصة في ثلاث مراحل، وهي مرحلة الضعف وفيها البعد والفراق، ومرحلة الفتنة وفيها الاختبار والتمحيص، ومرحلة التمكين وفيها القوة والقدرة وظهر فيها العفو بعد المقدرة.

وورد ذكر القميص كشاهد في الأحداث الثلاثة، فلما عرض على يعقوب، عليه السلام، صبر واستعان بالله رغم معرفته بكذب أولاده، ولكنه حكم بالدليل المقدم بين يديه.

وورد كشاهد على براءة يوسف في حادث مراودة امرأة العزيز له، ورغم ذلك لم يلتفت العزيز لصدق الدليل الدامغ والشاهد الصادق، وحكم بعكس الدليل، وذلك بسجنه حتى حين، فكان قاضيًا عرف الحق وحكم بخلافه.

وورد كشاهد على سلامة يوسف، عليه السلام، يطمئنّ به والده فصدق الشاهد، وقال لأبنائه مذكرًا لهم: ﴿ألم أقل لكم إني ‌أعلم ‌من الله ‌ما ‌لا ‌تعلمون﴾ [يوسف: 96].

فكأن هذه القصة بينت بعض المظاهر الأساسية للإصلاح، وهي الحكم بالدليل كفعل يعقوب، عليه السلام، وعدم الظلم بخلاف فعل العزيز، والعفو عند المقدرة كفعل يوسف، فهو ذلك الغلام الذي ظلمه إخوته ورموه في الجب وكذبوا على والدهم واتهموا الذئب بأكل ابنه، ورغم ذلك قال لهم: ﴿لا ‌تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين﴾ [يوسف: 92].

وقد قال قبل ذلك لملك مصر: ﴿قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ [يوسف: 55]، ولم يرد الانتقام ممن ظلمه، لكنه طلب المنصب لعلمه بفساد المتولي له بعد تبيّن ذلك بين يدي الملك.

كما نجد أنه ورغم كل الظلم الذي تعرّض له لم يكن ظالمًا ولا متعسفًا في استخدام السلطة التي مُنح إياها، ويتبين ذلك من رده على القائل له من إخوته: ﴿‌فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين﴾ [يوسف: 78]، فقال: ﴿معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذًا لظالمون﴾ [يوسف: 79].

المتأمل في سورة يوسف من أولها إلى آخرها لا يكاد يخطئ سمة فيها، وإثباتًا لسنة من سنن الله تعالى ونواميسه وهي التمكين بعد الاستضعاف، فرغم كل ما كان يدعو لليأس في قصة يوسف، عليه السلام، نلتمس في مواضع منها ما يدل على أن السنة المذكورة هي لليأس أقرب منها للتفاؤل، ولكن أمر الله ﷻ غالب، فهو مدبر الأمور

ثانيًا: صلاح المتولي وإصلاحه

تبين المنهج الإصلاحي ليوسف، عليه السلام، بعد توليه منصب عزيز مصر، فكان، عليه السلام، بحق نعم المتولي، ويظهر لنا في السورة المنهج الإصلاحي في إدارة الدولة من الجانب القضائي، ومن الجوانب الاقتصادية في مواضع أخرى.

ولا شكّ أنّ نيله للمنزلة الكريمة والمكانة العظيمة إضافة إلى مقام النبوة لما كان عليه من الإحسان، فهو محسن لما بلغ أشده في بيت العزيز:  ﴿ولما بلغ ‌أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين﴾ [يوسف: 22]، وهو محسن في فترة سجنه، حيث قال له صاحباه: ﴿نبئنا بتأويله إنا نراك ‌من المحسنين﴾ [يوسف: 36]، وهو محسن بعد خروجه من السجن: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع ‌أجر المحسنين﴾ [يوسف: 56].

وهو محسن لما صار عزيزًا لمصر، وفي محل القاضي، إذا قال له إخوته: ﴿فخذ أحدنا مكانه إنا نراك ‌من المحسنين﴾ [يوسف: 78]، وهو محسن في كل حياته وقد أثبت الله عنه ذلك، على لسانه إذ قال: ﴿إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ [يوسف: 90].

التمكين بعد تولّيه منصب العزيز ﴿وكذلك ‌مكنا ‌ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين﴾ [يوسف: 56]

ثالثًا: سنة التمكين بعد الاستضعاف

إن المتأمل في سورة يوسف من أولها إلى آخرها لا يكاد يخطئ سمة فيها، وإثباتًا لسنة من سنن الله تعالى ونواميسه، وهي التمكين بعد الاستضعاف، فرغم كل ما كان يدعو لليأس في قصة يوسف، عليه السلام، نلتمس في مواضع منها ما يدل على أن السنة المذكورة هي لليأس أقرب منها للتفاؤل، ولكن أمر الله ﷻ غالب، فهو مدبّر الأمور.

فقد ورد التمكين في معرض الحديث عن استرقاقه، عليه السلام، فقال تعالى: ﴿‌وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [يوسف: 21]، فالموضع موضع استرقاق وذلة، ورغم ذلك نجد أن الله ﷻ جعله تمكينًا، وهذا يذكرنا بالحادث المشهور في سيرة النبي ﷺ عند حفر الخندق واعتراض الصخرة، “من حديث البراء بن عازب قال لما كان حين أمرنا رسول الله ﷺ ‌بحفر ‌الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول فاشتكينا ذلك إلى النبي ﷺ فجاء فأخذ المعول فقال بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلثها وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض ثم ضرب الثالثة وقال بسم الله فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة” [فتح الباري 7/ 397 ].

فالوضع من الناحية المادية غير متصور فيه كل هذه الفتوحات العظيمة إذ المسلمون في كرب شديد وخوف من المشركين دفعهم لحفر الخندق، ولكنها الثقة بالله، تعالى، ومعرفة أن له تدبيرًا في هذا الكون، والتسليم بسننه الجارية.

وذكر التمكين بعد توليه منصب العزيز ﴿وكذلك ‌مكنا ‌ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين﴾ [يوسف: 56]، فكأن ذكر التمكين هنا عائد على ذكره هناك وتحقق واقعًا بعد أن كان غير متحققٍ مادي.

ختامًا يتبين لنا أن هذه السورة العظيمة تحتوي المنهج الإصلاحي في الحكم والاستخلاف ولا سيما في السياسة والاقتصاد، وذلك بتمكين الأمين الحفيظ العليم، وإقصاء الفاسدين

رابعًا: النصر بعد اليأس

وختمت السورة بآية عجيبة، قال ﷻ: ﴿حتى ‌إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين﴾ [يوسف: 110]، فكم من نصر نزل بعد يأس، وبأسباب وتدابير إلهية وليست بشرية، بل إن التدابير البشرية لقصورها يتخللها اليأس والقنوط.

ولعل هذا يبين لنا الأثر المنسوب لعطاء بن أبي رباح في حق هذه السورة: ” لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح”، وقد نزلت على النبي ﷺ في عام الحزن دفعة واحدة.

وختامًا: يتبين لنا أن هذه السورة العظيمة تحتوي المنهج الإصلاحي في الحكم والاستخلاف، ولا سيما في السياسة والاقتصاد، وذلك بتمكين الأمين الحفيظ العليم، وإقصاء الفاسدين، ولا سيما أنها تحكي بداية الظهور السياسي لبني إسرائيل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: ” الولاية لها ركنان: القوة والأمانة ” ثم قال: ” والقوة ‌في ‌كل ‌ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب، وكر، وفر، ونحو ذلك. والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وترك خشية الناس؛ وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس، في قوله تعالى: ﴿فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ [المائدة: 44]”، وقد ابتنى كتابه على آية الأمانات، وهي قول الله ﷻ: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا﴾ [النساء: 58].

فعلى متولي أمور المسلمين إسناد المهام لمستحقيها، وقد ورد في الحديث:

” إذا ‌ضيعت ‌الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة “[البخاري 6496].

فهذه حلقة من حلقات المنهج الإصلاحي الذي يمكن استنباطه من القرآن الكريم وسير الأنبياء الكرام، والذي يقوم ابتداء على تقويض الفساد وإحسان المتولي للسلطة، وهي إحدى حلقات تبيان السنن الظاهرة والعلامات الباهرة فيما يتعلق بالاستخلاف والتمكين بعد الاستضعاف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من نحن

“نحن في موقع نيوز عربي نولي اهتمامًا كبيرًا بتجربة المستخدم، حيث يتم تحسين المحتوى والعروض الترويجية بناءً على تحليلات دقيقة لاحتياجات الزوار، مما يسهم في تقديم تجربة تصفح سلسة ومخصصة.”

البريد الالكتروني: [email protected]

رقم الهاتف: +5-784-8894-678