• Home  
  • غزة.. من سياسات الموت إلى الإبادة الخوارزمية
- اقتصاد - غزة

غزة.. من سياسات الموت إلى الإبادة الخوارزمية

يقول أشيل مبيمبي – الفيلسوف الكاميروني – في مقال رائع حمل عنوان: “سياسات الموت”: “السياسي، تحت ستار الحرب، أو [القضاء على] المقاومة، أو الكفاح ضد الإرهاب، يجعل قتل العدو هدفه الأساسي والمطلق”. ويضيف: “الحرب، بعد كل شيء، بقدر ما أنها وسيلة تحقيق السيادة، وسيلة لممارسة الحق في القتل”. وعلى الرغم من أن من مقتضيات الإيمان […]

غزة.. من سياسات الموت إلى الإبادة الخوارزمية

يقول أشيل مبيمبي – الفيلسوف الكاميروني – في مقال رائع حمل عنوان: “سياسات الموت”: “السياسي، تحت ستار الحرب، أو [القضاء على] المقاومة، أو الكفاح ضد الإرهاب، يجعل قتل العدو هدفه الأساسي والمطلق”. ويضيف: “الحرب، بعد كل شيء، بقدر ما أنها وسيلة تحقيق السيادة، وسيلة لممارسة الحق في القتل”.

وعلى الرغم من أن من مقتضيات الإيمان الاعتقاد بأن الله وحده بيده الموت والحياة وخلقهما ليبلونا أينا أحسن عملا، فإن سياسات الموت مفهوم يستكشف كيف تتجلى القوة من خلال السيطرة على الحياة والموت، وتحديد من يجوز له العيش ومن يجب أن يموت، من خلال التأكيد على قتل العدو كهدف أساسي ومطلق للسياسة، وخاصة تحت ستار الحرب أو مناهضة المقاومة أو مكافحة الإرهاب- كما قدمت.

ولكن كيف تم منازعة هذا الحق الإلهي في الموت والحياة في غزة؟

تستند “سياسة الموت”، أو بالأحرى “سياسة القتل”، في حرب غزة إلى قوى راسخة، وعقائد عسكرية، وأيديولوجيات متطرفة، ومصالح اقتصادية… – كما شرحت بالتفصيل في الفصل الأخير من كتابي المزمع إصداره بالقاهرة أكتوبر/تشرين الأول.

يفضي هذا إلى إبادة السكان فعليا، وتهجيرهم، وسلب ممتلكاتهم، وقمع ذاكرتهم وثقافتهم، بهدف إقامة “دولة موحدة بدون عرب”.

في هذا التصور، تستخدم الأسلحة لتحقيق أقصى قدر من الدمار، مما ينشئ “عوالم موت” تخضع فيها الشعوب لظروف تضفي عليها صفة “الموتى الأحياء”. إنه يدل على قوة سيادية تتحكم في الفناء وتحدد الحياة كمظهر من مظاهر القوة، وتقسم السكان إلى أولئك الذين يجب أن يعيشوا وأولئك الذين يجب أن يموتوا.

تعمل سياسة الموت – من خلال العنصرية – على تقسيم الناس إلى من يجب أن يعيشوا ومن يجب أن يموتوا، مما ينشئ “فاصلا بيولوجيا” بين المجموعتين. تصبح العنصرية أسلوبا يسمح بممارسة “السلطة البيولوجية” و”الحق السيادي في القتل”.

ظهرت سياسة الموت في الحرب على غزة من خلال عدة عوامل مترابطة:

1- نية طويلة الأمد للطرد والسيطرة

فمنذ البداية، كانت الأجندة الأساسية للصهيونية العالمية هي فكرة “الدولة اليهودية الواحدة”، والتقدم نحو القضاء الكامل على فلسطين من خلال مفاوضات مطولة.

حتى قبل التقسيم 1947، بدأت إسرائيل التطهير العرقي، واعتبرت حل الدولتين بمثابة حجر الأساس لواقع الدولة اليهودية الواحدة. تشير الأدلة التاريخية إلى أن الطرد العرقي رافق الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ بداية الحركة الصهيونية الحديثة، من خلال خطط متعمدة تهدف إلى الاستيلاء على “أكبر قدر ممكن من فلسطين بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين”.

إن التوسع المستمر للمستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، وخاصة منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين مع صعود ائتلافات الليكود، تحول من مبررات الأمن القومي إلى رؤى “الخلاص الوطني”، مما أدى إلى زيادة الاحتكاك والصراع مع الفلسطينيين.

تعتبر هذه المستوطنات، التي غالبا ما تمولها منظمات غير ربحية معفاة من الضرائب في الولايات المتحدة، أدوات لطرد الفلسطينيين وإنشاء “مساحة مخصصة لليهود فقط”.

سمحت “حالة الطوارئ” المستمرة منذ مايو/أيار 1948 لإسرائيل بتطبيق أحكام استثنائية، متجذرة في لوائح الطوارئ الاستعمارية البريطانية، والتي عملت على الحد من العنف المباشر المحتمل من جانب السكان الأصليين على حساب إضفاء الشرعية على الممارسات القمعية التي يقوم بها المحتل.

2- العسكرة وعقائد التدمير

إن عسكرة إسرائيل، التي مكنتها العلاقات الثنائية التكافلية مع واشنطن والمساعدات العسكرية الأميركية الضخمة، قد عززت “نماذج الدمار”، مثل مبدأ الضاحية [نسبة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت] الذي تم تحديده لأول مرة 2005. وتتضمن هذه الإستراتيجية استهداف البنية التحتية المدنية عمدا بقوة غير متناسبة لإحداث معاناة هائلة، بهدف إرساء ردع فعال، وإنهاء الصراعات بسرعة.

طبقت هذه العقيدة لأول مرة في الحرب على لبنان 2006، وامتدت إلى حرب غزة 2008-2009، واستمرت حتى يومنا هذا مع النية المعلنة “لإعادة غزة إلى عقود من الزمن”.

وصفت الأمم المتحدة التطبيق بأنه “إرهاب دولة”، وهجوم “مخطط بعناية” لـ”معاقبة وإذلال وإرهاب السكان المدنيين”.

يعد توجيه هانيبال من إحدى عقائد التدمير، ويهدف هذا الإجراء المثير للجدل إلى منع أسر جنود إسرائيليين من خلال تحييد الرهائن أنفسهم.

ورغم إلغائه رسميا 2016، فإن تنفيذه في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أدى إلى اتهامات بـ”شن عملية هانيبال جماعية”، مع توجيهات بـ”منع عودة أي مركبة إلى غزة”، وتأكيدات بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي استهدف رهائن مدنيين إسرائيليين على نطاق واسع في غلاف غزة.

بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، وسع الجيش الإسرائيلي نطاق تفويضه لقصف الأهداف غير العسكرية، وخفف القيود المفروضة على الخسائر المدنية، واستخدم الذكاء الاصطناعي لتوليد المزيد من الأهداف المحتملة أكثر من أي وقت مضى.

شمل ذلك ضرب أهداف مثل المباني الشاهقة والمباني العامة لتوليد “ضغط مدني” على حماس، مما أدى فعليا إلى محو البنية التحتية الفلسطينية، وتدمير آثار ثقافتهم وتاريخهم.

كان الهدف الضمني هو إزالة الوجود الفلسطيني من المنطقة بالكامل، استنادا إلى افتراض أساسي بأن الناجين سيغادرون.

كانت الأراضي المحتلة بمثابة مختبرات للأسلحة التي تنتج في كل مكان. حرب غزة المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 أحدث ساحة اختبار لصناعة الأسلحة الغربية، حيث وردت تقارير عن اختبار أسلحة جديدة على الفلسطينيين.

3- نزع الإنسانية والتجويع المسلح

أدلى القادة الإسرائيليون بتصريحات كثيرة كان مقصدها الأساسي نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، مثل “لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة”، محملين سكانها المسؤولية الجماعية.

إن هذا التجريد من الإنسانية أمر بالغ الأهمية لإضفاء الشرعية على الانقراض الجماعي، وتأطيره باعتباره “واجبا أخلاقيا”.

قامت الحكومة الإسرائيلية، منذ حصارها عام 2007، بتقدير السعرات الحرارية اليومية الدقيقة اللازمة للتسبب في سوء التغذية في غزة، وهو ما وثقته في وثيقتها: “استهلاك الغذاء في قطاع غزة: الخط الأحمر”.

هذه السياسة، التي تهدف إلى إبقاء اقتصاد غزة “على شفا الانهيار” مع تجنب أزمة إنسانية كاملة، ارتبطت بأشد مجاعة من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية – كما يظهر الآن في غزة.

يوصف حجم ووتيرة الدمار في قطاع غزة بأنه أسوأ بكثير من أي شيء شهدناه منذ دريسدن أو روتردام أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث تم تدمير 70 ألف وحدة سكنية وتضرر أكثر من 290 ألف وحدة جزئيا. يطلق على هذا التدمير المتعمد والمنهجي للمنازل والبنية التحتية الأساسية، مما يجعلها غير صالحة للسكن، اسم “القتل العمد”.

لكن المفهوم الأوسع هو “المحو” الذي يعني التدمير الكامل، والمحو المجازي من الذاكرة (بما في ذلك المتاحف والمكتبات والمؤسسات الثقافية)، وعكس مسار التقدم الاقتصادي، مما يؤدي فعليا إلى “تراجع التنمية”.

بحلول مايو/أيار 2024، تم تدمير ما بين 70% إلى 75% من المباني في شمال غزة ومدينة غزة، وارتفعت كمية الأنقاض في غزة إلى ما يقدر بنحو 42 مليون طن.

4- التواطؤ الدولي وانعدام المساءلة

الولايات المتحدة وكثير من الدول الغربية “متآمر غير مسمى” في الإبادة الجماعية؛ بسبب مساعداتها العسكرية الضخمة وتمويلها وتدريبها وحمايتها الدبلوماسية، والتي لولاها لما كانت فظائع الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل قابلة للاستمرار.

وعلى الرغم من الانتقادات العلنية، استمرت عمليات نقل الأسلحة الغربية، مما سمح بإدامة الإبادة المروعة في غزة. أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد القادة الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك استخدام التجويع كأسلوب حرب وتوجيه الهجمات ضد المدنيين. تتهم قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، إسرائيل بارتكاب أفعال إبادة جماعية، وخطابات تحريضية، وتضعها في سياق “75 عاما من الفصل العنصري”.

“سياسة الموت” في الحرب على غزة ليست نتيجة عرضية، بل هي متجذرة في سياسات ومبادئ راسخة ومتطورة باستمرار تهدف إلى السيطرة والتهجير والتدمير المنهجي للحياة والبنية التحتية الفلسطينية، بدعم من الجهات الفاعلة الدولية.

الإبادة الخوارزمية

في غزة، انتقلنا من “حق القتل” إلى “حق الخوارزمية في القتل”.

الإبادة الخوارزمية “Algocide”، هو مصطلح جديد يجمع بين كلمتي algorithm (خوارزمية) وgenocide (إبادة جماعية)، للإشارة إلى الاستخدام المنهجي للخوارزميات والذكاء الاصطناعي في شن أعمال إبادة جماعية ضد المدنيين. وتتميز الإبادة الجماعية الخوارزمية، أو “الإبادة الخوارزمية”، بالاعتماد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة للغاية لتسهيل عملية التدمير.

يربط هذا المفهوم – الذي صاغه دان شتاينبوك Dan Steinbock في كتابه الصادر هذا العام – بين الذكاء الاصطناعي والفظائع البشرية. وتشمل الخصائص والميزات الرئيسية للإبادة الخوارزمية ما يلي:

1- التيسير التكنولوجي:

يتم تمكينه من خلال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتقدمة، مما يجعل عملية التدمير كثيفة رأس المال وسريعة بشكل مذهل وفعالة بشكل قاتل.

وعلى الرغم من التكنولوجيا المتقدمة، فإن ما يقرب من نصف الذخائر الجوية-الأرضية المستخدمة في غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان “قنابل غبية” غير موجهة، مما يؤكد التركيز على الضرر الواسع النطاق بدلا من الدقة، مما يشكل تهديدا أكبر للمدنيين في المناطق المكتظة بالسكان.

2- عملية النخر:

تسهل الإبادة الخوارزمية “عملية النخر”. و”النخر” لغة يعني حالة من الفساد أو التحلل الذي يضرب شيئا ما سواء كان حيا (أنسجة)، أو جامدا: (خشبا، عظما، حجرا).

يهدف النخر إلى تحويل العالم الحي إلى عالم الموت، مما يتطلب النزوح والسلب والتدمير. وهذا يتضمن تحويل المنازل والمدارس والجامعات إلى أنقاض وخرائب، وتلويث البيئة: (الماء والهواء والأرض)؛ لإجبار الناس على المغادرة. ويمكنه استهداف جوانب مختلفة من المجتمع، بما في ذلك سياسته وثقافته واقتصاده وسكانه وحتى بيئته.

3- المسافة الأخلاقية وإزالة الإنسانية:

إن الطبيعة المجردة للحرب عالية التقنية، كما هو الحال في الإبادة الخوارزمية، يمكن أن تؤدي إلى اتخاذ قرارات أقل أخلاقية؛ لأن العواقب الإنسانية تبدو بعيدة.

تتعزز هذه “المسافة الأخلاقية” من خلال عملية نفسية تسمى “الانقسام”، والتي تشجع على النظر إلى الأشخاص والمواقف بنظرة مانوية مطلقة (الأبيض والأسود، الخير والشر). يؤدي هذا إلى نزع الصفة الإنسانية عن “الآخر” وإضفاء صفة الشيطنة عليه، وتصويره على أنه “حيوان بشري”.

4- إضفاء الشرعية على الإبادة الجماعية:

في هذا الإطار الأخلاقي المشوه، يصبح محاربة “حيوان بشري” “ضرورة أخلاقية”. وإذا طبق مبدأ العقاب الجماعي، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي لإبادة الآلاف ليس مجرد ذريعة عسكرية، بل يشرعن على نحو مضلل كواجب أخلاقي، حيث يعتقد الجاني أنه “يفعل الخير بالقضاء على الشر”.

وهكذا، فإذا كانت “سياسات الموت” تهدف إلى “السيطرة على عوالم الحياة والموت” من خلال السلطة التي عادة ما يهيمن عليها بشر، فإنه ومع الإبادة الخوارزمية يتم تفويض هذا الحق في الموت والحياة إلى التقنية، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي والروبوتات أدوات إبادة ممنهجة تنزع الحياة الإنسانية بطريقة فائقة الدقة والتنظيم.

هذه الظاهرة “الجديدة” بدأت في غزة، ثم تصاعدت إلى لبنان، وإيران ولن تتوقف عند حدودهما، مما يعني أنها جزء من إستراتيجية كبرى متمددة وممنهجة، وليست عمليات عشوائية.

وهذا وإن حمل تغيرا جذريا لطبيعة الحرب، إلا إنه من شأنه أن يغير طبيعة الوجود الإنساني كله.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة نيوز عربي.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من نحن

“نحن في موقع نيوز عربي نولي اهتمامًا كبيرًا بتجربة المستخدم، حيث يتم تحسين المحتوى والعروض الترويجية بناءً على تحليلات دقيقة لاحتياجات الزوار، مما يسهم في تقديم تجربة تصفح سلسة ومخصصة.”

البريد الالكتروني: [email protected]

رقم الهاتف: +5-784-8894-678