قبل ما يقرب من 50 عاما، قامت سفينة تابعة للحكومة الأميركية، تبحث عن المعادن والهيدروكربونات في المنطقة، بحفر قاع البحر بشمال شرق الولايات المتحدة لمعرفة ما يمكن العثور عليه، ووجدت تحت أعماق المياه المالحة طبقة من الماء العذب.
وفي مايو/أيار 2025، تابعت بعثة بحثية عالمية، هي الأولى من نوعها هذه المفاجأة. وحفرت “البعثة 501” بحثا عن المياه العذبة تحت المياه المالحة قبالة منطقة كيب كود، واستخرجت آلاف العينات مما يُعتقد الآن أنه طبقة مياه جوفية ضخمة مخفية تمتد من نيوجيرسي إلى أقصى الشمال الشرقي حتى ولاية مين الأميركية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsend of list
يعتقد الباحثون أنها مجرد واحدة من بين العديد من “مستودعات المياه العذبة السرية” الموجودة في المياه المالحة الضحلة في جميع أنحاء العالم، والتي قد يتم استغلالها يوما ما لإرواء عطش الكوكب المتزايد، حسب براندون دوغان، كبير العلماء المشارك في البعثة.
ويقول دوغان، عالم الجيوفيزياء والهيدرولوجيا في كلية كولورادو للمناجم، لوكالة أسوشيتد برس: “علينا البحث عن كل فرصة متاحة لإيجاد المزيد من المياه للمجتمع حتى في آخر الأماكن التي يُحتمل أن نبحث فيها عن المياه العذبة على الأرض”.
ويعمل الباحثون على تحليل ما يقرب من 50 ألف لتر من العينات في مختبراتهم حول العالم خلال الأشهر المقبلة، وهم يسعون جاهدين لحل لغز مصدرها، سواء كانت من الأنهار الجليدية، أم من شبكات المياه الجوفية المتصلة بها على اليابسة، أم من مزيج من الاثنين.
إمكانات واعدة وعقبات
من خلال الاكتشاف الجديد، تبدو الإمكانات هائلة، حسب العلماء، لكن عقبات كثيرة تُطرح، منها كيفية استخراج المياه، والحيرة حول من يملكها ومن يستخدمها، وكيفية استغلالها دون الإضرار بالطبيعة. ومن المؤكد أن جلب هذه المياه للاستخدام العام على نطاق واسع سيستغرق سنوات، إن كان ذلك ممكنا أصلا، وفقا لتقديرهم.
حسب منظمة لأمم المتحدة، في غضون 5 سنوات فقط، سيتجاوز الطلب العالمي على المياه العذبة الإمدادات بنسبة 40%. ويؤدي ارتفاع منسوب مياه البحر نتيجة لارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ إلى تدهور مصادر المياه العذبة الساحلية، بينما يتم استنزاف المياه الجوفية الأرضية بشكل كبير.
ففي عام 2018، خلال فترة جفاف قاسية استمرت 3 سنوات، كادت مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا أن تنضب من المياه العذبة، التي تكفي سكانها البالغ عددهم 5 ملايين نسمة تقريبا. ويُعتقد أن جنوب أفريقيا تتمتع أيضا بوفرة من المياه العذبة الساحلية تحت سطح البحر، وهناك أدلة على أن كل قارة قد تمتلك نفس القدر من المياه العذبة.
وتُعتبر جزيرة الأمير إدوارد في كندا، وهاواي، وجاكرتا في إندونيسيا من بين الأماكن التي تتعايش فيها إمدادات المياه العذبة المجهدة مع طبقات المياه الجوفية المحتملة تحت قاع المحيط، بالإضافة إلى أماكن أخرى محتملة حول العالم.
وفي هذا السياق جاء دور “البعثة 501″، وهي تعاون علمي بقيمة 25 مليون دولار بين أكثر من 12 دولة، بدعم من مؤسسة العلوم الوطنية التابعة للحكومة الأميركية والاتحاد الأوروبي ، وقد تم تأمين الأموال الأميركية لهذه البعثة قبل تخفيضات الميزانية التي سعت إليها إدارة الرئيس دونالد ترامب.
وقد بدأ العلماء المشروع معتقدين أن طبقة المياه الجوفية التي كانوا يجمعون عينات منها قد تكفي لتلبية احتياجات مدينة بحجم مدينة نيويورك لمدة 800 عام، ووجدوا مياها عذبة أو شبه عذبة على أعماق أعلى وأدنى مما توقعوا تحت قاع البحر، مما يشير إلى وجود مخزون أكبر من ذلك.
وامتد عملهم في البحر على مدار 3 أشهر انطلاقا من سفينة “ليفتبوت روبرت”، وهي سفينة عابرة للمحيطات، تُنزل، فور وصولها، 3 أعمدة ضخمة إلى قاع البحر، وعادة ما تخدم هذه السفينة مواقع النفط البحرية ومزارع الرياح. أما مهمة الحفر هذه، فكانت مختلفة.
يقول جيز إيفرست، مدير مشروع “البعثة 501″، وهو عالم من هيئة المسح الجيولوجي البريطانية في إدنبرة بأسكتلندا، عن المياه تحت سطح البحر: “من المعروف أن هذه الظاهرة موجودة هنا وفي أماكن أخرى حول العالم، لكن هذا موضوع لم يسبق لأي مشروع بحثي أن بحث فيه بشكل مباشر”.
ولم يسبق لأحد على مستوى العالم الحفر بشكل منهجي في قاع البحر في مهمة للبحث عن المياه العذبة، فقد كانت “البعثة 501” رائدة بكل معنى الكلمة، إذ اخترقت الأرض تحت سطح البحر بعمق يصل إلى ما يقارب 400 متر.
وجاء “البعثة 501” في أعقاب مشروع بحثي أجري في عام 2015، والذي قام برسم خرائط عن بعد لطبقة المياه الجوفية، باستخدام التكنولوجيا الكهرومغناطيسية، وتقدير تقريبي لملوحة المياه الموجودة تحتها.
وقد أشارت تلك المهمة، التي قامت بها مؤسسة “وودز هول” لعلوم المحيطات ومرصد “لامونت دوهيرتي” للأرض في جامعة كولومبيا، إلى وجود أدلة على وجود “نظام ضخم للمياه الجوفية البحرية” في هذه المنطقة، ربما ينافس حجم أكبر نظام للمياه الجوفية في أميركا، وهو حوض أوغالالا للمياه الجوفية، الذي يوفر المياه لأجزاء من 8 ولايات في السهول العظمى.
في وسط جزيرة نانتوكيت، حفرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية بئرا تجريبية لمعرفة عمق المياه الجوفية واستخرجت مياها عذبة من أعماق هائلة، مما دفع العلماء إلى التساؤل عما إذا كانت المياه مصدرها البحر، لا السماء.
في العام نفسه، أطلقت الوكالة الفدرالية رحلة استكشافية لمدة 60 يوما على متن سفينة الحفر “غلومار كونسيبشن” على امتداد مساحة شاسعة من الجرف القاري، من جورجيا إلى جورج بانك قبالة نيو إنغلند. وحفرت عيناتٍ؛ بحثا عن موارد قاع البحر، مثل الميثان، وقد عثر الباحثون على كمية هائلة من المياه العذبة في بئر تلو أخرى.
بعد وصول سفينة “ليفتبوت روبرت” إلى أول مواقع الحفر الثلاثة في 19 مايو/أيار، سجلت العينات المأخوذة من قاع البحر نسبة ملوحة بلغت 4 أجزاء فقط في الألف، وهو معدل أقل بكثير من متوسط محتوى الملح في المحيطات البالغ 35 جزءا في الألف، ولكنه لا يزال شديد الملوحة بحيث لا يفي بالمعيار الأميركي للمياه العذبة الذي يقل عن جزء واحد في الألف.
وقال دوغان “إن اكتشاف نسبة أربعة أجزاء في الألف كان بمثابة لحظة اكتشاف عظيمة”، لأن هذا الاكتشاف يشير إلى أن المياه ربما كانت متصلة بنظام أرضي في الماضي، أو لا تزال كذلك”.
مع مرور الأسابيع، ومع انتقال روبرت من موقع إلى آخر على بُعد 30 إلى 50 كيلومترا من الساحل، أسفرت عملية الحفر في الرواسب البحرية المشبعة بالمياه عن جمع عينات بمحتوى ملحي يصل إلى جزء واحد في الألف، بل إن بعضها كان أقل من ذلك.
وفي الأشهر المقبلة من التحليل، سوف يقوم العلماء بالتحقيق في مجموعة من خصائص المياه، بما في ذلك الميكروبات التي تعيش في الأعماق، وما تستخدمه من مواد غذائية ومصادر للطاقة وما المنتجات الثانوية التي قد تنتجها، أي ما إذا كانت تلك المياه آمنة للاستهلاك أو الاستخدام بطريقة أخرى.