لم يكن نجما تقليديا، فقد عُرف بليبراليته وجرأته في اختيار أدواره، وبانخراطه في القضايا الإنسانية، من حماية البيئة إلى الدفاع عن حقوق السكان الأصليين. على الشاشة، لعب بطولة أكثر من 50 فيلما، لكن مجده الأكبر جاء من خلف الكاميرا حين حصد الأوسكار كمخرج، قبل أن تكرمه الأكاديمية بالجائزة الفخرية عام 2002.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
ومع ذلك، ظل جماله عقبة في طريقه. كثيرًا ما خسر أدوارا كان يطمح إليها، وكان يردد بمرارة: “القدر عاقبني على امتلاكي جاذبية جنسية”. وسامةٌ تحولت إلى سيفٍ ذي حدين، زادت من نجوميته لكنها قلّصت من تنوع شخصياته.
إخفاقات ونجاحات
وُلد روبرت ريدفورد الابن عام 1936 في سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا، لأسرة متواضعة، كان والده بائع حليب قبل أن يتحول لاحقًا إلى محاسب في شركة “ستاندرد أويل”. بدا الطريق أمامه مبكرًا مبشرًا بالنجاح، إذ حصل على منحة دراسية في جامعة كولورادو بفضل براعته في لعبة البيسبول، لكن نزقه دفعه إلى فقدانها بعد فصله بسبب السكر.
جاءت وفاة والدته المبكرة لتلقي بظلالها الثقيلة على حياته، فغرق في حزن عميق جعله يتجه للعمل في حقول النفط بكاليفورنيا، قبل أن يحمل حقيبته ويغادر إلى أوروبا، متنقلًا بين باريس وفلورنسا حيث درس الفن، بحثًا عن خلاص داخلي ومساحة جديدة للتعبير.
وبعد عودته إلى الولايات المتحدة، التحق بالأكاديمية الأميركية للفنون المسرحية مصممًا مسرحيًا، لكن شغف الأضواء جذبه سريعًا نحو التمثيل. كانت بدايته على الشاشة الكبيرة عام 1960 في فيلم “قصة طويلة” إلى جانب جين فوندا، غير أن العمل فشل ولم يترك أثرًا يُذكر.
النجاح الحقيقي بدأ من خشبة المسرح حين قدّم شخصية المحامي المتغطرس في مسرحية “حافي القدمين في الحديقة”، وهو الدور الذي أعاد تجسيده لاحقًا في السينما عام 1967 أمام جين فوندا مجددًا، لتجمعهما 4 أفلام في مسيرتهما.
عام 1965، لمع اسمه أكثر عندما حصل على جائزة “غولدن غلوب” كأفضل وجه جديد واعد عن دوره في فيلم “داخل ديزي كلوفر” مع ناتالي وود. وفي تلك السنوات، شارك أيضًا في فيلم “المطاردة” إلى جانب مارلون براندو وجين فوندا وأنجي ديكنسون، غير أن الشهرة الحقيقية لم تطرق بابه إلا عام 1969، عندما وقف جنبًا إلى جنب مع بول نيومان في الفيلم الخالد “بوتش كاسيدي وصندانس كيد”.
وقد ظل ريدفورد يعترف بفضل نيومان عليه، مؤكدًا أن دوره في ذلك الفيلم كان نقطة التحول الكبرى في مسيرته: “سأبقى مدينًا له إلى الأبد”.
الترشيح للأوسكار
شكل فيلم “بوتش كاسيدي وصندانس كيد” نقطة الانطلاق لعلاقة فنية وصداقة متينة بين روبرت ريدفورد وبول نيومان. بعد 4 سنوات، اجتمع الثنائي مجددًا في فيلم “اللدغة” عام 1973، وهو الدور الذي منح ريدفورد أول ترشيح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل، لكنه خسرها أمام جاك ليمون، فيما حصد الفيلم 7 جوائز أوسكار ودخل لاحقًا أرشيف السينما الوطنية الأميركية كواحد من كلاسيكياتها الخالدة.
أدوار لامعة وجرأة في الاختيارات
توالت بعدها الأدوار اللافتة: “غاتسبي العظيم” إلى جانب ميا فارو، و”الطريق الذي كنا عليه” أمام باربرا سترايسند، ثم فيلم “أيام كوندور الثلاثة” مع فاي داناواي. لكن مغامرته الكبرى تمثلت في شراء حقوق فيلم “كل رجال الرئيس”، الذي تناول فضيحة ووترغيت الشهيرة. وقد عُرض العمل عام 1976، حيث جسد ريدفورد شخصية الصحفي بوب وودوارد إلى جانب داستن هوفمان بدور كارل بيرنشتاين، ليحقق الفيلم نجاحًا مدويًا ويحصد 4 جوائز أوسكار.
نجاحات متباينة
واصل ريدفورد رحلة بين النجاح والإخفاق، فكان فيلم “بروبيكر” محطة ناجحة على المستويين المادي والفني، وكذلك “هامس الخيول” و”عرض زواج غير لائق”. أما فيلمه البديع “خارج أفريقيا” مع ميريل ستريب فقد حقق جوائز عدة وحفر مكانته في ذاكرة السينما. في المقابل، لم يحالفه الحظ مع فيلم “هافانا” الذي لم يحقق الإيرادات المرجوة.
حضور مستمر وتجارب مختلفة
جمعه القدر مجددًا مع ميريل ستريب في فيلم “الأسود للحملان”، ثم قدم تجربة استثنائية في فيلم “كل شيء فقد” الذي كان فيه الممثل الوحيد تقريبًا، ونال عنه إشادة كبيرة من النقاد. كما ظهر في أفلام جماهيرية مثل “كابتن أميركا: جندي الشتاء”، مؤكدًا قدرته على التنقل بين السينما المستقلة والتجارية.
وداع ثم عودة غير متوقعة
في عام 2019، أعلن ريدفورد اعتزاله التمثيل بعد ظهوره ضيف شرف في فيلم “المنتقمون: نهاية اللعبة”، لكنه ما لبث أن تراجع عن قراره، ليعود في سن متقدمة ويطل في حلقات من مسلسل “رياح مظلمة”، وكأنه أراد أن يظل حاضرًا ما دامت الكاميرا تدور.
تجربة إخراجية ثرية
لم يكتفِ روبرت ريدفورد بمكانته كأيقونة تمثيلية، بل خاض غمار الإخراج ليصنع لنفسه مسارًا موازيًا لا يقل أهمية عن حضوره أمام الكاميرا. جاءت بدايته في الثمانينيات مع فيلم “أناس عاديون”، حيث أسند البطولة إلى دونالد سوثرلند، ليقدم عملا إنسانيًا عميقًا حصد استحسان النقاد والجمهور على حد سواء. ثم عاد ليكشف عن موهبة جديدة في هوليود، حين أخرج فيلم “نهر يجري من خلالها” ومنح براد بيت، الذي كان لا يزال في بداياته، فرصة ذهبية وضعته على طريق النجومية. أما فيلمه “أسطورة باغر فانس” فقد كان محطة خاصة، إذ جمع فيه آخر ظهور للنجم الكبير جاك ليمون.
وحين يُذكر ريدفورد كمخرج، لا يمكن إغفال تعاونه الوثيق مع سيدني بولاك، حيث شكلا ثنائيًا سينمائيًا بارزًا في السبعينيات والثمانينيات. هذا التعاون أثمر عن 7 أفلام بين عامي 1966 و1990، لتظل شراكة فنية من الأكثر تأثيرًا في تلك الحقبة.
ولأن السينما بالنسبة إليه لم تكن مجرد أدوار وأفلام، أسس معهد صندانس ليقدم الدعم الإبداعي والمالي لصنّاع السينما المستقلين، ثم ترأس مهرجان “يوتا السينمائي” الذي تحول لاحقا إلى مهرجان صندانس السينمائي، أحد أهم المنصات العالمية للسينما البديلة والمستقلة.
بعيدًا عن الأضواء، كان ريدفورد ناشطا سياسيا وبيئيا بارزا، كرّس سنوات من عمره للدفاع عن القضايا البيئية، ليغدو رمزا ليس فقط في الفن، بل في الالتزام الاجتماعي والإنساني أيضا. لقد آمن بأن دور الفنان لا يتوقف عند حدود الشاشة، بل يمتد إلى مسؤولية أعمق تجاه الإنسان والطبيعة.

تحذير من سلوك ترامب
لم يُخفِ روبرت ريدفورد رفضه للرئيس الأميركي دونالد ترامب، واعتبر نظامه “ملكيًا مقنّعًا”، داعيًا الأميركيين للتصويت من أجل “الحقيقة والنزاهة”. وفي مقال رأي عام 2019 على قناة “إن بي سي”، وصفه بأنه صاحب “سلوك دكتاتوري”، محذرًا من “كارثة تنتظر البلاد إن لم يُصحح المسار”.
عرف ريدفورد في هوليود بلقب “الجنتلمان الأول”، وتميزت تجربته الإخراجية بالانتقائية ورهافة الحس، حتى وصفه أحد النقاد بأنه يمتلك “إشراقة داخلية تجعله يبدو وكأنه مُضاء من الداخل”.
رحل رمز الأناقة الكلاسيكية في منزله بصندانس عن عمر 89 عاما. ونعته جين فوندا قائلة: “كان إنسانًا رائعًا بكل المقاييس، شعرت بخبر رحيله وكأن ضربة أصابت قلبي”. أما ميريل ستريب فكتبت: “أسد رحل، ارقد بسلام يا صديقي العزيز”. واستحضرت باربرا سترايسند ذكرياتها معه في فيلم “أجمل سنواتنا”، مؤكدة أنه كان “كاريزميا، عميقًا، وفريدًا من نوعه”.
رحل أيقونة هوليود الذي لم يؤمن يوما بوسامته، لكنه ظل رمزا للأناقة وهوية أميركا الثقافية والفنية لعقود طويلة.