حين يملك الإنسان موهبة استثنائيّة وعقلا قادرا على الابتكار، فإنّ قيمته لا تُقاس بالراتب الذي يعرض عليه، بل بالقدرة على أن يجعل الآخرين يتسابقون عليه وفق شروطه.
تماما كما اجتذب سباق الفضاء في القرن العشرين ألمع العقول حول العالم، فإن سباق الذكاء الاصطناعي اليوم يضع الشباب المبدعين تحت الأضواء العالمية.. استثمارات بمليارات الدولارات، واختراقات تقنية متلاحقة، وسعي مستمر نحو الذكاء الاصطناعي العام، كلها عوامل تجعل العباقرة الشباب في دائرة الضوء.
في إطار هذا التنافس المحموم، يبرز اسم مات دايتكي كمثال حي للطموح الذي لا يعرف حدودا، فلم يتجاوز عمره 24 عاما حين حقق إنجازات نادرة، حيث تخلى عن الدكتوراه المرموقة، وأسس شركته الناشئة الخاصة، ورفض عرض عمل بـ9 أرقام من “ميتا”، ثم أبرم لاحقا صفقة بقيمة 250 مليون دولار مع أحد أقوى المديرين التنفيذيين في عالم التكنولوجيا.
خطوة جريئة نحو المستقبل
تبع مات دايتكي في مسيرته المبكرة مسارا مألوفا لنجم أكاديمي صاعد، وبوصفه طالب دكتوراه في علوم الحاسوب بجامعة واشنطن، غاص في مجال يشهد تحولا جذريا.
لكن بينما كان كثيرون يختارون الصعود التقليدي في السلم الأكاديمي، شعر دايتكي بإلحاح اللحظة التي لا يمكن تأجيلها، وبدلا من البقاء في البرج العاجي، قرر الانخراط مباشرة مع الحدود المتقدمة للمجال.
ترك برنامج الدكتوراه، بقرار غير تقليدي، لكنه أصبح أكثر شيوعا بين باحثي الذكاء الاصطناعي المتميزين، وانضم إلى معهد ألين للذكاء الاصطناعي (AI2) في سياتل، المركز البحثي الذي أسسه بول ألين، الشريك المؤسس لشركة مايكروسوفت، وهناك لم يكتفِ بالمساهمة بل قاد العمل.
قاد دايتكي تطوير “مولمو” (Molmo)، وهو روبوت دردشة مصمّم ليس فقط لمعالجة النصوص، بل لفهم الصور والصوت، مقدما شكلا أكثر شبها بالبشر من الفهم الآلي، وتمثل هذه القدرة متعددة الوسائط أحد أهم التقدمات في الذكاء الاصطناعي اليوم، وكان دايتكي بالفعل في قلب هذا التطور.

من التكريم إلى الثورة الرقمية
سرعان ما لفت عمل مات دايتكي انتباه مجتمع الذكاء الاصطناعي العالمي، ففي مؤتمر نظم معالجة المعلومات العصبية (NeurIPS 2022)، أحد أرقى المؤتمرات في تعلم الآلة، حصل على جائزة الورقة البحثية المتميزة، وهو تكريم يدل على وصوله إلى الساحة العالمية.
لكنّ دايتكي لم يكتفِ بالجوائز، ففي عام 2023، شارك في تأسيس شركة “فيرسبت” (Vercept)، وهي شركة ناشئة تركز على بناء وكلاء ذكاء اصطناعي مستقلين قادرين على التنقل داخل الويب واتخاذ إجراءات، مقلّدة استقلالية السلوك البشري في البيئات الرقمية.
وعلى الرغم من أن الفريق كان صغيرا، بعدد عشرة أعضاء فقط، نجحت الشركة في جمع 16.5 مليون دولار من مجموعة بارزة من المستثمرين، من بينهم إريك شميدت المدير التنفيذي السابق لشركة “غوغل”.
تمثل “فرسبت” طليعة الاتجاه الجديد في الذكاء الاصطناعي، متجاوزة روبوتات الدردشة التقليدية ومحركات التوصية، نحو وكلاء قادرين على اتخاذ إجراءات رقمية في العالم الحقيقي، وعلى رأس هذا الإنجاز كان شابا في الرابعة والعشرين من عمره، سبق أن رفض أحد أكبر عروض العمل في تاريخ التكنولوجيا.
الصفقة التي هزّت وادي السيليكون
حين اقتربت “ميتا” من مات دايتكي لأول مرة بعرض يقدر بـ125 مليون دولار على مدى 4 سنوات، كان ذلك كافيا ليتصدّر العناوين. لكن المفاجأة جاءت حين رفض العرض، ما أدى إلى اجتماع شخصي مع مارك زوكربيرغ نفسه. هناك، قُدّم له عرض صادم حتى لأكثر المراقبين خبرة في وادي السيليكون، 250 مليون دولار.
وقال الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، ديفيد أوتور، لصحيفة نيويورك بوست، تعليقا على هذه الظاهرة “عندما يُدفع لعلماء الحاسوب مثل الرياضيين المحترفين، نكون قد وصلنا إلى ذروة انتقام الأذكياء”.
هذا الرقم، الذي يعدّ من بين أضخم حزم التعويضات الممنوحة لأي باحث في الذكاء الاصطناعي على الإطلاق، يعكس بوضوح إستراتيجية “ميتا” العدوانية في سباق المواهب، فقد استقطبت الشركة مؤخرا رومينغ بانغ، القائد السابق لفريق نماذج الذكاء الاصطناعي في “آبل”، في صفقة يقال إنها تجاوزت 200 مليون دولار.
وتندرج محاولة “ميتا” لاستقطاب دايتكي ضمن موجة توظيف واسعة، حيث يُقال إن الشركة تنفق أكثر من مليار دولار، لتعزيز فريقها من مواهب الذكاء الاصطناعي، مع التزامها بإنفاق 72 مليار دولار على النفقات الرأسمالية في 2025.
وقال زوكربيرغ للمستثمرين “نحن نبني فريقا نخبويا عالي الكثافة بالمواهب، إذا كنت ستُنفق مئات المليارات على الحوسبة وبناء عدة عناقيد بقدرات غيغاواط، فمن المنطقي بالفعل أن تنافس بقوة شديدة، وأن تفعل كل ما يلزم لتحصُل على هؤلاء الخمسين أو السبعين، أو أيا كان عددهم، من أفضل الباحثين لتشكيل فريقك. هناك ببساطة قيمة استثنائية للحصول على الأشخاص الأكثر موهبة وتميزا”.

من العبقرية الفردية إلى قيادة ثورة الذكاء الاصطناعي
قصة مات دايتكي تتجاوز كونها حكاية عن الشباب والثروة، فهي مرآة للواقع الجديد للذكاء الاصطناعي، حيث لم تعد الحدود بين الأوساط الأكاديمية والصناعة وريادة الأعمال صارمة، بل هي في طريقها للانحلال، إذ إن الباحثين يعملون في بيئة يمكن فيها للتحصيل العلمي أن يتحول إلى ثروة ونفوذ وتأثير غير مسبوقين.
ومع ذلك، تعكس خيارات دايتكي أكثر من مجرد انتهازية، فهي تظهر وضوحا إستراتيجيا، فبدلا من أن يقيد نفسه في مؤسسة واحدة أو مسار محدّد، يتنقل بحرية واستقلال داخل النظام البيئي، محاكيا نوع الذكاء الاصطناعي الذي يسعى إلى بنائه.
في سن 24، يقف دايتكي ليس فقط كمعجزة، بل كنموذج أولي للباحثين ورواد الأعمال متعددي المهارات الذي تتطلّبهم ثورة الذكاء الاصطناعي، اليوم، سواء في “فيرسبت” أو في “ميتا”، من المرجح أن يشكّل عمله الأدوات والوكلاء وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي ستحدد العقد المقبل.
مع تزايد الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي، وتحول الشركات الناشئة إلى مسار مباشر نحو الابتكار، يصبح واضحا أن المستقبل لم يعد ملكا للمؤسسات الكبيرة وحدها.
دايتكي، بشجاعته ورؤيته، يوضح أن القدرة على التكيف وقيادة الابتكار هي العملة الحقيقية في عصر الذكاء الاصطناعي، وأن الجيل القادم من القادة التقنيين سيُقاس ليس بمدى امتلاكهم المصادر، بل بمدى قدرتهم على تشكيل المستقبل بأفكارهم ومشاريعهم.