نيوز عربي – كييف
تفاقمت الأزمة بين أوكرانيا والولايات المتحدة بعد رفض كييف النسخة المعدلة من اتفاقية المعادن التي طرحتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي اعتبرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تهديدًا مباشرًا للسيادة الأوكرانية ولمسار البلاد نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
زيلينسكي يرفض التعديلات: “غير مقبولة”
في تصريحات نارية، قال زيلينسكي إن التعديلات الأميركية “غير مقبولة”، مشيرًا إلى أنها تنتهك المبادئ الأساسية للدستور الأوكراني الذي ينص صراحة على التكامل الأوروبي، مؤكدًا أن كييف لن توافق على اتفاقية تقوّض هذا المسار.
مشادة دبلوماسية وتعليق المساعدات
بدأ التوتر في 28 فبراير/شباط الماضي خلال اجتماع في البيت الأبيض، حيث اندلعت مشادة بين الرئيسين، انتهت بمغادرة زيلينسكي واشنطن غاضبًا. وردت إدارة ترامب بتعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ما أدى إلى تجميد المفاوضات بشأن الاتفاقية.
وفي وقت لاحق، وتحت ضغوط سياسية وأمنية متزايدة، أعلن زيلينسكي وقفًا غير مشروط لإطلاق النار وأبدى استعداده للعودة للمفاوضات.
بنود مثيرة للجدل في الاتفاق المعدل
النسخة الجديدة التي تسلمتها أوكرانيا في 28 مارس/آذار حملت بنودًا غير متفق عليها مسبقًا، أبرزها استرداد واشنطن لجميع الأموال التي أنفقتها على أوكرانيا منذ 2022 وفق حسابات أميركية خالصة.
وتضمنت الاتفاقية شروطًا تُفهم على أنها محاولة لفرض هيمنة اقتصادية على الموارد المعدنية الأوكرانية، ما أثار موجة انتقادات داخلية ودولية، وقلقًا من أن الاتفاق قد يُستخدم للضغط على كييف في ملفات أمنية وسياسية أوسع.
بين السيادة والتحالفات الدولية
قال زيلينسكي في تصريحات لموقع “كييف إندبندنت” إن أوكرانيا لن توقع أي اتفاقية تمس سيادتها أو تهدد مستقبلها الأوروبي. وأضاف أن بلاده تتفهم أهمية العلاقات مع واشنطن، لكنها ترفض أي ضغوط تُفرض خارج إطار السيادة الدستورية.
ورغم محاولات الطرفين الحفاظ على علاقات متوازنة، فإن الخلاف يعكس توترًا أعمق في ظل التحولات الجيوسياسية العالمية والصراع المتزايد على المعادن النادرة.

ونقلت الصحافة الأوكرانية عن زيلينسكي قوله إن الولايات المتحدة تُعدّل “بشكلٍ مستمر” بنود الاتفاقية المقترحة، معلنا تشكيل فريق من المحامين والخبراء لدراسة التعديلات الأميركية ومقارنتها مع النسخ السابقة ومع التشريعات الأوكرانية ذات الصلة، كي لا يكون فيها ما يعارض القوانين الأوكرانية ثم تقديم تقييم شامل لها حتى يتسنى لأكرانيا أن تحدد ردها على التعديلات الأميركية.
ونقلت صحيفة “يوروبيان برافدا” عن وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيغا أن أي اتفاقية تعارض مسار أوكرانيا نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مرفوضة بشكل مبدئي.
وفي تقرير بعنوان “اتفاقية المعادن الولايات المتحدة تتجاوز كل الخطوط الحمراء في أوكرانيا”، اعتبرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية أن الأميركيين شددوا موقفهم في المفاوضات بشأن اتفاقية المعادن المقترحة مع كييف.
وأضافت لوفيغارو أنه يتعين على أوكرانيا إرسال ردها “بحلول نهاية هذا الأسبوع”، مشيرة إلى أن عديدا من أعضاء البرلمان الأوكراني والشخصيات الأوكرانية يعتبرون أن الأميركيين تجاوزوا جميع الخطوط الحمر.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤول أوكراني كبير أنه من المؤكد أن الرد الأوكراني لن يكون وفق ما يريده الأميركيون الذين يسعون للتوصل إلى اتفاق في أسرع وقت ممكن.
وذكرت صحيفة “أوكرينسكا برافدا” الأوكرانية أن “فريق ترامب تخلى عن كل الحلول الوسطية التي تم الاتفاق عليها قبل شهر”.

اتفاقية غير متوازنة
لم يتم الكشف عن نص التعديلات الأميركية وتحاط بكثير من السرية، لكن حسب ما كشفته بعض وسائل الإعلام الموثوقة، فإن الخطوط العريضة للنسخة المعدلة يبدو أنها لا تفيد إلا الولايات المتحدة.
فحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ، فإن الأميركيين يقترحون إنشاء صندوق استثماري لإجبار الأوكرانيين على سداد كل المساعدات التي قدمتها واشنطن منذ بداية الحرب الروسية.
وتضيف الوكالة أن التعديلات الجديدة تلزم أوكرانيا بمنح الولايات المتحدة نصف إيراداتها المستقبلية من الإيرادات التي تتلقاها من جميع المشاريع الجديدة التي تستغل الموارد الطبيعية، مثل المعادن الرئيسية والغاز والنفط.
وبدوره، ذكر تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية أن أحدث نسخة من الاتفاقية التي اقترحتها الولايات المتحدة تتضمن شروطا تمنح واشنطن سيطرة غير مسبوقة على الموارد الطبيعية لأوكرانيا من خلال صندوق استثمار مشترك يُموّل من الأرباح المستقبلية لاستخراج المعادن الثمينة في أوكرانيا.
وأكدت فايننشال تايمز أن المسودة الجديدة التي تسلمتها كييف من واشنطن مختلفة كثيرا عن مضامين الاتفاقية الأولى التي كان سيتم توقيعها خلال زيارة زيلينسكي لواشنطن، وأن التعديلات الجديدة تغطي جميع الموارد المعدنية الأكرانية، بما في ذلك النفط والغاز وأصول الطاقة الرئيسية في جميع أنحاء أوكرانيا.
وأشار تقرير لوفيغارو إلى أنه بالإضافة إلى البنية التحتية الجديدة (الطرق والسكك الحديدية والموانئ) فإنه ليس من الواضح حتى الآن إذا ما كان هذا مرتبطا فقط بهذه الأنشطة الاستخراجية، أو أي بنية تحتية قديمة أو جديدة في أوكرانيا ترتبط كليا أو جزئيا بهذه الاستخراجات، مثل الموانئ وغيرها.
ونقلت لوفيغارو عن الخبير الفرنسي ومدير الأبحاث في معهد البحوث الاقتصادية والمالية إيمانويل هاش قوله إن مما يبرهن على أن هذه الاتفاقية غير متوازنة أنه ستكون للولايات المتحدة السيطرة الكاملة على الصندوق الاستثماري المزمع إنشاؤه.
وسيتولى الإشراف عليه مجلس مكون من 5 أعضاء (3 أميركيين وأوكرانيين اثنين)، وهو ما يثير غضب الأوكرانيين إذ سيكون للأميركيين في الواقع الأغلبية في هذا المجلس ويتمتعون بحق النقض على أي مشروع.
وكشفت صحيفة يوروبيان برافدا -في تقرير لها عن الاتفاقية- عن أن الولايات المتحدة ستكون الطرف الوحيد المستفيد من أرباح الصندوق المزمع، فسيكون للأميركيين الحق في جني كل الأرباح من هذه الاستغلالات من أجل سداد مبلغ 500 مليار دولار من المساعدات، كما ستفرض واشنطن فائدة بنسبة 4% على هذا الدين، حتى يتم استرداد المساعدات العسكرية والمالية المقدمة لأوكرانيا بالكامل.

أوكرانيا تملك 5% من معادن العالم
حسب تقرير لوكالة رويترز، تمتلك أوكرانيا رواسب كبيرة من المعادن الأساسية، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة، على الرغم من أن حجمها الدقيق لا يزال غير مؤكد.
وتُعد المعادن الأرضية النادرة ذات قيمة عالية لاستخدامها في تقنيات الدفاع، وكذلك في أجهزة مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والبطاريات.
ونقلت لوفيغارو عن الباحث الفرنسي ومؤلف كتاب “حرب المعادن النادرة” غيوم بيترون أن أوكرانيا أصبحت ضحية جديدة للمنافسة العالمية على احتكار المعادن، تماما مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية التي يتم تصدير 80% من إنتاجها المعدني إلى الصين من دون أن يستفيد منه الكونغوليون.
وحسب الخبير بيترون، فإن أوكرانيا تعاني حالة ركود، وتحاول الولايات المتحدة استغلال هذا الوضع من خلال فرض شروط غير عادلة للوصول إلى المعادن النادرة، وبالتالي الحصول على ورقة إستراتيجية واقتصادية لتلعبها في إطار حرب المعادن مع الصين التي تسيطر على 69% من سوق إنتاج المعادن النادرة وحوالي 90% من مصانع تكريرها عام 2024.
وتكشف لوفيغارو عن أن 5% من الموارد المعدنية في العالم تتركز في أوكرانيا، ولكنها ليست قابلة للاستغلال كلها، حيث إن “نحو 40 إلى 50% من المعادن النادرة تقع في مناطق تحتلها روسيا حاليا”.
ونقلت الصحيفة عن الخبير هاش أن الولايات المتحدة تسعى من وراء حرب المعادن هذه إلى الحصول على المغناطيس المستخدم في محركات السيارات الكهربائية، وفي تقنيات التوجيه، وحتى في أنظمة الكمبيوتر الخاصة بالهواتف المحمولة.
هل الهدايا الأميركية مسمومة؟
شكلت المساعدات التي قدمتها أميركا في عهد الرئيس السابق جو بايدن جزءا كبيرا من المشكلة الحالية، ويرى مراقبون أن ترامب ربما يسعى -نكاية في بايدن- إلى استرجاع كل تلك الأموال ويعتبرها ديونا يجب تسديدها، في حين يراها زيلينسكي هبات وهدايا لا يجب سدادها، بل إن مطالبة بلاده بذلك تمثل استنقاصا من سيادتها.
وحسب تقرير “يوروبيان برافدا”، فإن إدارة ترامب اشترطت في نسخة اتفاقية المعادن الجديدة سداد أوكرانيا جميع المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة منذ بدء الحرب الروسية الشاملة عام 2022.
وتشمل المساعدات الأميركية -التي تسبب حاليا غصة للأوكرانيين- الدعم العسكري والإنساني ودعم الميزانية، ويثير حجم هذا الدعم خلافا كبيرا بين الطرفين، إذ يقدر دونالد ترامب أنه يصل إلى 500 مليار دولار، في حين تنفي كييف تلك التقديرات، وتعتبر أن تلك المساعدات لا تتجاوز قيمتها نحو 114 مليار دولار.
عرقلة الانضمام لأوروبا
وحسب صحيفة لوفيغارو، يشكل الاتفاق تهديدا مباشرا لترشح أوكرانيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، إذ تفرض التعديلات التي اقترحتها إدارة ترامب حصول الولايات المتحدة على “حق العرض الأول” فيما يتعلق بتسويق هذه الاستخراجات المستقبلية.
ووفق المفاهيم المرتبطة بقانون الأعمال، يسمح هذا المفهوم للولايات المتحدة بتقديم العرض الأول في المشاريع الاستثمارية المتعلقة بعمليات الاستغلال المعدنية، وكذلك شراء العقارات والأعمال التجارية الأخرى.
ووفقا لتقرير بلومبيرغ، فإن الولايات المتحدة -من خلال ترسيخ وجودها والسيطرة على الموارد المعدنية الأوكرانية- تهدد بشكل مباشر مساعي أوكرانيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن هذه الاتفاقية لا تقتصر على فترة زمنية محددة حاليا.
وتعتبر بلومبيرغ أن الاتفاقية مناقضة لقوانين المنافسة في الاتحاد الأوروبي، فبموجبها سيكون للحكومة الأميركية الحق في شراء المعادن الأوكرانية كافة، وكذلك النفط والغاز، قبل أي طرف آخر، بغض النظر عما إذا كان الصندوق الاستثماري المشترك يمول المشروع أم لا.
ويذهب النص الأميركي إلى أبعد من ذلك، فهو يمنع كييف من بيع معادنها إلى دول تعد “منافسين إستراتيجيين” لواشنطن، وهي إشارة تشمل ضمنا الاتحاد الأوروبي.
نقلت وكالة رويترز عن مسؤولين أوكرانيين أن النسخة الجديدة من الاتفاقية، مثل سابقتها، لا تمنح أوكرانيا أي ضمانات أمنية، وهذه أيضا -حسب تقارير لوفيغارو- من النقاط غير مقبولة بالنسبة لزيلينسكي، الذي يصر على إضافة بند مكتوب في الاتفاق يشير إلى وجود عسكري، أو على الأقل خدمات أمنية خاصة، على أراضيه من أجل ثني روسيا عن مواصلة حربها.
لكن الصحيفة نقلت عن خبراء أنه من اللحظة التي سيسيطر فيها الأميركيون على المعادن في أوكرانيا، سيتعين عليهم، مهما حدث، تأمين البنية التحتية والإنتاج وتأمين نقله.
ويشير إيمانويل هاش إلى أن “دونالد ترامب لن يرى أبدا استخراج أي معدن نادر من باطن الأرض الأوكرانية خلال فترة ولايته، لأن إنتاجه يستغرق 10 سنوات على الأقل، وبالتالي فهو لا يراهن على المستقبل القريب لاتفاق محتمل، بل على السنوات الـ15 المقبلة من أجل التحسن في القطاعات الرقمية والعسكرية ومنخفضة الكربون”.

هل تملك كييف خيار الرفض؟
يعتبر تقرير بلومبيرغ أن المفاوضات الجارية بشان تعديلات الاتفاقية حساسة، إذ تسعى أوكرانيا للحفاظ على دعم الولايات المتحدة في حربها ضد الحرب الروسية، بينما تسعى في الوقت نفسه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وبدورها، ترى لوفيغارو أن مجال المناورة محدود للغاية بالنسبة لكييف، التي تعتمد عسكريا على الولايات المتحدة لمواجهة روسيا، ودعم الولايات المتحدة يبدو مرهونا بتوقيع هذه الاتفاقية.
لكن الصحيفة تضيف أن أوكرانيا تحاول مع ذلك إعادة التوازن إلى الاتفاقية لمنع الولايات المتحدة من انتزاع سيادتها، وهو ما أكده وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيغا في تصريحاته ليوروبيان برافدا، الثلاثاء، حيث قال إن بلاده تريد نصا “مقبولا بشكل متبادل”.
ومن وجهة النظر الأوكرانية، فإن قبول التعديلات التي تمنح واشنطن السيطرة على كل الاستغلال المستقبلي لموارد أوكرانيا المعدنية والهيدروكربونية، فضلا عن البنية التحتية المرتبطة بذلك، من شأنه أن يعادل الموافقة على نقل السيادة على الموارد إلى دولة أخرى.
لكن كييف -حسب المحللين- مجبرة على السير بخطى حذرة وتجنب أي انتقادات علنية لاذعة لإدارة ترامب، حفاظا على الدعم الأميركي “المُتضائل والممنون” لمعركتها المستمرة ضد الحرب الروسية.