وعلى الرغم من أن الانسحاب من أفغانستان بدأ في ولايته الأولى، فإن ترامب لم يتوقف عن انتقاد طريقة انسحاب إدارة سلفه جو بايدن عام 2021، وقال إن الولايات المتحدة كانت ستغادر أفغانستان لكنها ستحتفظ بقاعدة باغرام.
ويرى ترامب أن بلاده أعطت حركة طالبان الحاكمة في أفغانستان قاعدة باغرام “مجانًا”. وبلغة الصفقات يقول الرئيس الأميركي “نحاول استعادتها لأنهم بحاجة لأشياء منا” ملمحا إلى أن واشنطن تملك أوراق ضغط على الحكومة الأفغانية.
كما يزعم ترامب أن “قاعدة باغرام أصبحت الآن في أيدي الصينيين” معتبرا ذلك “خطأ إستراتيجيا فادحا” من جانب بايدن.
ومنذ الانسحاب من أفغانستان، حذر مسؤولون أميركيون من “خطر وقوع باغرام في أيدي العدو”. واعترف الجنرال ماكنزي، القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، في تقرير قدّمه إلى الكونغرس بأن “مغادرة باغرام دون اتفاق كان أكبر خطأ ارتكبناه، وستظل هذه القاعدة رصيدًا إستراتيجيًا لعقود”.
ويكشف إلحاح ترامب -بالحديث عن ضرورة استعادة قاعدة باغرام- غراما دفينا يستوجب تفسيره مقارنة بأحاديثه الرغائبية السابقة عن الضم والسيادة فيما يتعلق بقناة بنما أو غرينلاد القريبتين من جغرافيا الولايات المتحدة، لكن جغرافيا النفوذ قد تمتد إلى جغرافيا ما وراء الحدود حتى لو كانت أفغانستان.
ويعود غرام ترامب بباغرام حسب ما صرح هو إلى قربها الجغرافي الإستراتيجي من الصين فهي ” تبعد ساعة واحدة فقط من المكان الذي تصنع فيه الصين صواريخها وأسلحتها النووية”.
وتقول “واشنطن بوست” بافتتاحيتها اليوم إن قاعدة باغرام ذات أهمية إستراتيجية نظرًا لقربها من الحدود مع الصين ومن ميدان التجارب النووية في لوب نور، الواقع في منطقة نائية بمقاطعة تركستان الشرقية (شينجيانغ).
وحسب الصحيفة الأميركية كان يُعتقد منذ فترة طويلة أن ميدان التجارب مهجور، ولكن هناك تقارير وردت عن تزايد أنشطة البناء العسكرية الصينية في المنطقة.
كما ترى بافتتاحيتها أن عودة قوة عسكرية أميركية صغيرة إلى باغرام ستكون بعيدة كل البعد عن الوجود العسكري القوي الذي كان قائمًا سابقًا. لكنها ستمنح الولايات المتحدة موطئ قدم في منطقة ذات أهمية إستراتيجية في ظل استمرار المنافسة مع الصين.
وتقول إن الوجود العسكري الأميركي في باغرام “سيسمح للولايات المتحدة أيضا بشن عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة مضطربة ضد تنظيم الدولة الإسلامية فرع خراسان الإرهابي الذي يخوض أيضًا حربًا مع طالبان، وقد بسط نفوذه في أوروبا”.
الإرث الرمز
آلت قاعدة باغرام الجوية، التي تعد إرثا للوجود العسكري الأميركي في أفغانستان الذي استمر 20 عاماً، إلى أيدي أفغانستان بقيادة طالبان والتي تعبر بفخر عن السيطرة الكاملة على هذه القاعدة، معتبرةً إياها ورقة رابحة في معادلة الأمن الإقليمي.
وبعد سقوط كابل في 15 أغسطس/آب 2021، أعلنت طالبان سيطرتها على قاعدة باغرام دون أي صراع. وحينها أعلن المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد “باغرام اليوم رمزٌ لاستقلال أفغانستان، ولن نسلمها لأي قوة”.
وكانت القاعدة فترة الاحتلال الأميركي أكبر مركز لوجستي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في المنطقة باستثمارات أميركية بلغت مليارات الدولارات على مدى عقدين من الزمان.
وهي تغطي مساحة تقارب 5 آلاف هكتار، وتقع في قلب آسيا الوسطى، مع إمكانية وصول مباشرة إلى حدود الصين وإيران وروسيا، وهو ما جعل الولايات المتحدة تتطلع إليها باستمرار حتى بعد انسحابها.
وكانت قاعدة باغرام الجوية تضم مدرجًا بطول 3600 متر مُجهزًا بمعايير مقاومة للصدمات، مما يسمح بهبوط وإقلاع 130 طائرة عسكرية يوميًا. وخلال فترة وجود حلف الناتو لم تكن القاعدة مقرًا للعمليات القتالية فحسب، بل كانت أيضًا موقعًا للقوات الخاصة الأميركية، ووحدات وكالة المخابرات المركزية، ومعدات استخباراتية وأقمار صناعية متطورة للغاية. وتُظهر صور الأقمار الصناعية لعام 2019 أن القاعدة كانت تضم أكثر من 110 مبان عملياتية و20 مستودعًا للأسلحة مجهزة تجهيزًا كاملًا.
ووفقًا لتقرير لصحيفة نيويورك تايمز في يوليو/تموز 2021، لعبت قاعدة باغرام دورًا محوريًا في ضبط ومراقبة تحركات القوات الإيرانية والجماعات المسلحة التابعة لروسيا، بالإضافة إلى رصد الأنشطة الأمنية في إقليم أويغورستان الصيني.
كما استخدم الأميركيون هذه القاعدة لتنفيذ برامج سرية للغاية ضد تنظيمي القاعدة وداعش (الدولة الإسلامية). وكشفت صحيفة واشنطن بوست في تقرير لها أن أكثر من 350 مهمة استخباراتية انطلقت من باغرام عام 2020.

الحضور الصيني
يعتقد بعض الخبراء أن (الحكومة الأفغانية بقيادة) حركة طالبان غير قادرة على استغلال قدرات باغرام بالكامل، وأن هذا الفراغ قد يُمهد الطريق أمام قوى إقليمية مثل الصين لكسب النفوذ.
ويستشهدون في ذلك بإبداء الصين مرارًا اهتمامها بوجود استخباراتي واقتصادي في أفغانستان خلال محادثات الأمن الإقليمي.
وعلى الأرض زادت بكين مشاريع البنية التحتية، مثل “مبادرة الحزام والطريق” التي تمر بالقرب من باغرام، مما يرجح -حسب هؤلاء الخبراء- احتمال استخدام الصين للقاعدة إستراتيجيًا، لا سيما وأن أفغانستان غنية بمناجم الليثيوم والموارد المعدنية النادرة، ويمكن أن تلعب باغرام دورا لوجستيًا رئيسيًا في استخراجها.
ولكن حركة طالبان تنفي حتى الآن أي تعاون عسكري مع الصين، إلا أن تقارير استخباراتية مختلفة تشير إلى أن خبراء صينيين زاروا قاعدة باغرام عدة مرات خلال الأشهر القليلة الماضية.
ووفقا لتقارير غربية زار وفد فني صيني سرا كابل في أبريل/نيسان 2023، وقام بتفتيش منشآت باغرام. ولم تؤكد الحكومة الصينية أو تنفي هذه الزيارة بعد.
مخاوف وحسابات
وتزايدت المخاوف بشأن عودة الولايات المتحدة إلى أفغانستان، وخاصةً عبر باغرام. وقد حذّرت روسيا وإيران مرارا من تزايد أنشطة الاستخبارات الأميركية على حدودهما الشرقية. وعام 2018 أدانت طهران أنشطة المراقبة الإلكترونية الأميركية في باغرام بمذكرة رسمية إلى الأمم المتحدة.
ومحليًا، يُنظر إلى باغرام بمشاعر متباينة. فالبعض يراها رمزًا للاحتلال، ويراها آخرون مصدرا للقوى العاملة والازدهار الاقتصادي في الماضي. وتشير الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الحكومة الأفغانية السابقة إلى أنه عام 2017 وحده كان أكثر من 2700 شخص يعملون بشكل مباشر في باغرام.
وأكثر ما تريده الحكومة الأفغانية بقيادة طالبان -من الولايات المتحدة- هو كسر العزلة والاعتراف بها، حيث لا تزال الحكومة السابقة تشغل مقعد أفغانستان في الأمم المتحدة.
كما ترغب كابل في الوصول إلى 7 مليارات دولار من الأصول المجمدة في الولايات المتحدة لتعزيز اقتصاد البلاد المتعثر.
ورغم ذلك لا يبدو المسؤولون الحكوميون في أفغانستان متحمسين لعودة القوات الأميركية إلى باغرام. وقال ذاكر جلالي المسؤول كبير بالخارجية الأفغانية “لم يقبل الأفغان قط وجودًا عسكريًا أجنبيًا على أرضهم عبر التاريخ” لكن هناك مجالا للتفاوض.
كما أضاف جلالي بوضوح “أفغانستان وأميركا بحاجة إلى انخراط في علاقات اقتصادية وسياسية قائمة على الاحترام الثنائي والمصالح المشتركة، دون أن تحتفظ الولايات المتحدة بأي وجود عسكري في أي جزء من أفغانستان”.
والواضح أن خبرة 20 سنة من الاحتلال والمواجهة مع الأميركيين -يضاف إليها خبرة 4 سنوات من التفاوض- أكسبت حركة طالبان قدرات لفهم العقلية الأميركية وطرق التفاوض معها، والبراغماتية تجمع الجانبين وهذا ما سيحدد مصير رغبة ترامب بقاعدة باغرام التي يجمعه الغرام بها مع كثيرين من الجوار.