ندوة في مكتبة قطر الوطنية تسلط الضوء على تراث الوراقة المغربية وصناعة المخطوط
الدوحة – نظّمت مكتبة قطر الوطنية ندوة علمية بعنوان “الوِراقة المغربية وصناعة المخطوط.. مقاربات في المواد والتقاليد والوظائف”، بمشاركة نخبة من الباحثين والمتخصصين في مجال التراث العربي والمخطوطات. وتأتي الندوة ضمن فعاليات العام الثقافي قطر-المغرب، واحتفاءً بـ يوم المخطوط العربي 2025.
على مدار يومين، ناقش المشاركون موضوعات متعمقة حول صناعة المخطوط المغربي، من بينها دور الوراقين والنساخ في تدوين وحفظ المعرفة، مرورًا بالتقاليد الفنية والوظيفية، ووصولًا إلى آفاق الرقمنة والتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والإنسانيات الرقمية.
وفي تصريح لـ”نيوز عربي”، أوضح الدكتور محمود زكي، منظم الندوة وأخصائي المخطوطات في مكتبة قطر الوطنية، أن الفعالية تهدف إلى إحياء التراث الوراقي العربي، وربط الماضي بالمستقبل من خلال تمكين الأبحاث الرقمية، مشيرًا إلى أن هذا الحدث يُعدّ جزءًا من التزام ثقافي مشترك بين قطر والمغرب لإعادة إحياء التراث المكتوب.
تراث غني وأساليب مغربية مميزة
ناقش الباحثون الأساليب التقليدية المغربية في نسخ وتداول المخطوطات، وسلطوا الضوء على التميز الذي تحمله النصوص الوراقية من حيث المادة والأسلوب والبنية.
وأكد الدكتور زكي أن “الوراقة المغربية لا تختزل فقط في كونها صناعة، بل هي وعاء فكري ومعرفي يحمل بصمات حضارية مميزة”، مضيفًا أن هذه الندوة تمثل خطوة متقدمة نحو توثيق هذا التراث عبر أدوات البحث الرقمي المتقدم.
وفي افتتاح الجلسات، قدّم الدكتور محمد الطبراني، الأستاذ بجامعة القاضي عياض في مراكش، مداخلة حول “المنتسخات المحققة” في المغرب والأندلس، مستعرضًا نسخة مغربية نادرة من كتاب الشفا للقاضي عياض، واصفًا إياها بأنها نموذج يعكس الاحتراف في التحقيق العلمي للمخطوطات منذ قرون.

خزائن الكتب ذاكرة المغرب العلمية
أما الدكتور رشيد العفاقي، فتناول في ورقته الموسّعة تاريخ خزائن الكتب والمكتبات في المغرب من القرن الثالث الهجري حتى العصر الحديث، مستعرضًا تنوع أنماطها بين الرسمية والخاصة، والزوايا والمساجد والمكتبات العامة، مقدّمًا لائحة تفصيلية لـ11 نوعًا من هذه الخزائن، ومبرزًا دور التحبيس والطباعة الحجرية في تنمية هذا التراث.
وفي عرض بعنوان “الخزانة الزيدانية من المغرب إلى الإسكوريال.. رحلة مكتبة مغربية سلطانية”، قدّم الدكتور البشير التهالي قراءة مختلفة في خزانة السلطان زيدان السعدي، التي آلت إلى دير الإسكوريال بإسبانيا، مبرزًا أهمية دراستها من داخل المخطوط نفسه، ومشيرًا إلى أنها تشكل “نموذجًا لفهم الذاكرة المادية والمعرفية للمكتبة السلطانية في المغرب”.

مهن الوراقة وخطوط المغرب وأحباره
تطرق الدكتور أحمد الصديقي من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء إلى تطور مهن الوراقة بالمغرب في سياق التحضر وانتعاش الحياة العلمية، موضحًا كيف أثرت العوامل الاقتصادية والسياسية في رواج صناعة الكتاب وتوزيعه خاصة خلال فترات السلم واستقرار الدولة.
من جهته، تناول الباحث بالخزانة الحسنية بالرباط الدكتور محمد سعيد حنشي خصائص الحوامل المادية للكتاب المخطوط في الغرب الإسلامي، من الورق المغربي المصبوغ إلى الورق الشاطبي الذائع الصيت، ثم تتبع تاريخ الأحبار المغربية التي “كان يُسقى بعضها بالمسك والورد، ويُنشَّف بمسحوق الذهب”، بحسب وصفه.
أما الدكتور محمد عبد الحفيظ خبطة الحسني، فقدّم تصنيفًا علميا لتطور الخطوط المغربية والأندلسية، من “الكوفي القيرواني” إلى “الخط الزمامي” و”الثلث المغربي”، مستعرضًا المدارس الكبرى لتعليم الخط مثل مدرسة ابن الخصال ومدرسة أبي بكر بن خير، ومبرزًا خصوصية الخط المغربي بعد سقوط الأندلس واستقلال المغرب عن الهيمنة العثمانية.
من هوامش المخطوط إلى زواياه الخفية
قدّم الدكتور خالد زهري من جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، بحثًا متميزا بعنوان “النصوص المصاحبة للمخطوط.. مفاتيح جديدة لفهم التاريخ المغربي”، عرض فيه كيف يمكن لخوارج النصوص، من تقميشات وإجازات وتحبيسات وهوامش، أن تعيد صياغة بعض المسلمات التاريخية وتصحيحها.
وسرد زهري اكتشافات مثيرة، منها “تفنيد الادعاء بأن السلطان محمد بن عبد الله حظرَ تدريس كتب الكلام عبر تحبيسات بخط يده على كتب معقولة”، إضافة إلى رصد تراجم لأعلام مغاربة ظلوا مجهولين لولا ما خطّته أياديهم في حواشي النسخ التي اشتغلوا عليها.

الذكاء الاصطناعي والمخطوط
في الجلسة الثانية، انتقل النقاش إلى المستقبل من خلال استعراض إمكانات الذكاء الاصطناعي والإنسانيات الرقمية في دراسة وتحقيق المخطوطات.
وقال الدكتور محمود زكي في هذا السياق إن “الرقمنة لم تعد كافية، فنحن ننتقل اليوم إلى تحليل النصوص آليًا، واستخلاص البيانات من الهوامش، والتعرف على الخطوط بأنواعها”، مؤكدًا أن هذه التقنيات “لا تستبدل الدراسة التقليدية بل تعززها، وتفتح آفاقًا متعددة التخصصات”.
وشهدت الجلسات التطبيقية في مكتبة قطر الوطنية تفاعلا حيًّا من المشاركين الذين عاينوا مخطوطات مغربية نادرة، وشارك بعضهم في ورش تحليلها أحيانا عبر أدوات خوارزمية، في تجربة تُعد من أوائل تطبيقات الذكاء الاصطناعي على مخطوطات المغرب العربي.
جماليات الفن المخطوط
واختتمت الجلسة بمحاضرة ثرية لأستاذ الآثار والفنون الإسلامية بجامعة حلوان الدكتور تامر مختار حول الزخرفة وفنون تذهيب وتجليد المخطوط المغربي. وأكد المحاضر أن “المخطوط المغربي جمع بين الرقة والجمال ومزج بين ثراء الخط وإبداع الزخرفة”، مشيرًا إلى ضرورة إيلاء مزيد من الاهتمام البحثي لهذا المجال.
أما الباحث خالد بن محمد المختار البداوي السباعي، فاستعرض نماذج من أعلام الوراقين والعلماء الذين طبعوا مسار الوراقة المغربية من أبي الحسن الشاري إلى عبد الحي الكتاني، مع الإشادة الخاصة بدور الدكتور أحمد شوقي بنبين في توثيق هذا التراث.
أكدت الندوة أن تاريخ الوراقة المغربية ليس مجرد إرث معرفي، بل هو تجسيد لرحلة طويلة من الإبداع، من الوراقين والنسّاخ في الحواضر العتيقة إلى الباحثين والمبرمجين في مختبرات الذكاء الاصطناعي، وأشارت إلى أن أفقا جديدا لدراسات المخطوط العربي يتشكل حاليا بين رفوف المخطوطات العتيقة وخوارزميات المستقبل.
ومن بين المواضيع الأخرى التي ناقشتها الندوة تقاليد التأليف والنسخ والتحقيق في المغرب، وجماليات المخطوطات المغربية، وتاريخ خزائن الكتب والمكتبات ودورها في حفظ المخطوطات والتراث. وقدَّم الخبراء رؤى قيمة حول الدور الحيوي الذي يؤديه النساخون والورّاقون والممارسات المتبعة في تحقيق المخطوطات.
وقد سلطت الندوة الضوء على الخصائص المميزة للمخطوطات الإسلامية المغربية والغربية، وأوضحت أوجه الاتفاق والاختلاف مع التقاليد الإسلامية المشرقية، واستكشفت كيفية انتقال المعرفة من النساخين والوراقين الأوائل وجامعي الكتب إلى الباحثين المعاصرين.

ويتناول اليوم الثاني من الندوة غدا الثلاثاء إمكانات التقنيات الحديثة في دراسة المخطوطات، حيث يستعرض المشاركون كيفية مساعدة أدوات الذكاء الاصطناعي في تحليل المخطوطات وصيانتها مع الحفاظ على مرجعياتها التاريخية والتراثية.
يقول الدكتور زكي في هذا الصدد:
“لا تعدّ الأدوات الرقمية مثل الذكاء الاصطناعي والمقاربات المعتمدة على البيانات مجرد إضافات حديثة، بل إنها تتيح رؤى قيّمة حول كيفية قراءة المخطوطات وتحليلها وفهمها. ولا يكمن الهدف في استبدال الدراسة التقليدية، بل في إثرائها من خلال تعاون منضبط متعدد التخصصات”
وتشمل فعاليات اليوم الثاني من الندوة حلقتين تطبيقيتين تتيحان للمشاركين فرصة تحليل المخطوطات المغربية النادرة من مجموعات مكتبة قطر الوطنية، والمشاركة في مناقشات حول استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل المخطوطات.