عوامل صعود الإسلام في فرنسا
كشفت بيانات كل من معهد الدراسات الديمغرافية (إيناد) والمعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (إينسي) ارتفاعا ملحوظا في نسبة النساء المسلمات المرتديات للحجاب بين عامي 2008 و2020، خصوصا بين القادمات من المغرب العربي وتركيا.
وقد أسهمت الهجرة الاقتصادية منذ منتصف القرن الـ20 في ترسيخ الوجود الإسلامي بفرنسا، وكان له دور محوري في إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية.
وبحسب مرصد “الهجرة والسكان”، فإن تزايد تدفقات الهجرة يعد من أبرز العوامل التي فسرت تنامي حضور الإسلام في المشهدين الاجتماعي والثقافي، فقد تضاعف عدد الحاصلين على أول ترخيص إقامة بنسبة 172% بين 1997 و2023، معظمهم من دول مسلمة.
كما أظهرت إحصائيات عام 2021 أن 72% من المهاجرين الجدد و61% من طالبي اللجوء ينتمون إلى دول ذات أغلبية مسلمة، مما عزز الحضور الديمغرافي المتنامي للأقلية المسلمة في فرنسا.
الهجرة وتحوّل الهوية
وعلى مدى عقود ظل المسلمون المهاجرون يعانون في بناء علاقة مستقرة مع فرنسا، فقد كانت بالنسبة لهم مستعمرا قديما ثم وجهة اقتصادية مؤقتة.
إعلان
وفي مطلع القرن الـ20 تدفق آلاف الجزائريين إلى فرنسا مدعومين بقانون 1904 الذي سهّل التنقل بين البلدين، وبحلول عام 1926 أصبح الجزائريون يشكلون أكبر جالية مهاجرة في البلاد.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت فرنسا تستقدم العمال مجددا لإعادة الإعمار، ووقّعت اتفاقيات مع المغرب وتونس، وكان يُطلق عليهم “العمال المتخصصون”، وكان كثير منهم يعتبر إقامته في فرنسا مؤقتة وينوي العودة إلى بلده لاحقا.
لكن قانون لمّ الشمل العائلي في الفترة بين 1974 و1982 غيّر المشهد جذريا، إذ أدى إلى تحول الهجرة من مؤقتة إلى إقامة دائمة.
ومع قدوم الزوجات والأطفال بدأت تظهر الحاجة لتنظيم الممارسات الدينية، مما فتح المجال لما سمي “الإسلام القنصلي” الذي تولت تنظيمه القنصليات الأجنبية ضمن احترام مبدأ العلمانية الفرنسية.
وفي الثمانينيات برز الجيل الأول من الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة ممن وُلدوا في فرنسا ويحملون جنسيتها، وعلى عكس آبائهم أعادوا تعريف هويتهم ضمن إطار القانون وشاركوا في الحياة العامة بفاعلية.
المسلم الفرنسي
منذ ثمانينيات القرن الـ20 أصبح الإسلام مرجعا جماعيا لهوية جديدة، فعوض أن يكون وسيلة للحفاظ على الجذور فقط بدأ يمارَس بشكل أكثر وعيا وتأملا، خاصة بين الشباب المتعلمين الذين أعادوا قراءة النصوص الدينية بشكل تأويلي حديث.
لم يعد الحجاب مجرد رمز تقليدي، بل أصبح عند الجيل الجديد تعبيرا عن الاستقلال والاختيار الحر بين الانتماء الثقافي والدستور الجمهوري، وقد انعكس ذلك في ردود الفعل على “قضية الحجاب” عام 1989، فبينما اختار الآباء الحذر رفض الأبناء الانصياع.
وحتى تسعينيات القرن الـ20 افتقر الوجود الإسلامي في فرنسا إلى بنية مؤسساتية واضحة، وظل حضوره يبدو كأنه طارئ تاريخي مرتبط بفكرة “العودة المؤجلة”، لكن أبناء جيل السبعينيات وما بعدها تخلوا عن هذا التصور، وبدؤوا يطالبون بحضور علني للإسلام ينسجم مع مبادئ الجمهورية.
إعلان
وتبلورت بذلك هوية مزدوجة تجمع بين الانتماء الفرنسي والمرجعية الإسلامية.
العلمانية الفرنسية
من الناحية الدستورية، تعد فرنسا دولة علمانية منذ عام 1905، ولا تعترف رسميا بأي دين ولا تعاديه، ووفق ما ينص عليه الدستور في مادته الثانية فإن “الجمهورية علمانية، لكنها تحترم جميع الأديان”.
وعلى هذا الأساس، يفترض أن يعامل الإسلام كما تعامل بقية الأديان، ومن ضمنها الكاثوليكية التي كانت تعتبر “الدين الأم” قبل الثورة الفرنسية.
وكثيرا ما يتذرع قادة فرنسا بشعار “الحفاظ على العلمانية” لتبرير ممارسات تمييزية ضد المسلمين، وتحويلها إلى سياسات ممنهجة ذات غطاء قانوني.
وفي هذا السياق، أعلنت الحكومة الفرنسية نيتها إعداد مشروع قانون لمواجهة ما تسميه “الإسلام السياسي”، وذلك ضمن سلسلة من التدابير التي أعلنها الرئيس إيمانويل ماكرون لمحاربة ما وصفه بـ”الانفصال الإسلامي”.
ورغم تمسك فرنسا بخطابها الديمقراطي الذي يضمن حرية المعتقدات وحقوق الإنسان فإنها توصف بأنها من أكثر الدول الأوروبية التي تشهد حملات معاداة للإسلام، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019 وافق مجلس الشيوخ الفرنسي على مقترح قانون يمنع الأمهات من ارتداء رموز دينية -خاصة الحجاب- أثناء مرافقة أطفالهن في الرحلات المدرسية.
وعلى صعيد الممارسات، شهدت فرنسا في أكتوبر/تشرين الأول 2019 حادثة مثيرة للجدل عندما طلب النائب جوليان أودول من امرأة مسلمة نزع الحجاب أثناء لقاء عام، مصحوبا باعتداء لفظي أثار موجة استنكار.
ويعزو مراقبون هذا التصعيد إلى تحوّل ماكرون نحو خطاب أقصى اليمين الذي يتبنى مواقف عدائية تجاه الإسلام ويمارس ضغوطا متكررة ضد بناء المساجد وارتداء الحجاب، في محاولة لربط الدين الإسلامي بالإرهاب بشكل متعمد.
الإسلاموفوبيا وسياسات ماكرون
تبنّت حكومات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء ولايتيه الأولى والثانية سياسات رفعت منسوب الإسلاموفوبيا في الدولة والمجتمع إلى مستويات غير مسبوقة.
إعلان
كما أسهمت خطابات ماكرون وإجراءاته التشريعية والتنفيذية في توسيع رقعة العداء للمسلمين وتعميق جذوره وإضفاء طابع قانوني وممنهج عليه، مما جعل منه سياسة اضطهادية معلنة.
وهذه الظاهرة لا يمكن اختزالها في عهد ماكرون وحده، فهي سابقة له وتعود إلى قرون، بدءا من الحملات الصليبية في القرن الـ11، مرورا بالاستعمار الفرنسي للجزائر وما رافقه من تعامل ذي طابع عنصري، وصولا إلى الخطاب المعاصر المتمثل في “الحرب على الإسلاموية” أثناء حكم ماكرون.
ورث ماكرون بنية معقدة من الإسلاموفوبيا التاريخية والسياسية، لكنه أسهم في تحديثها وتعزيز حضورها عبر أدوات ووسائل جديدة، مما عمّق أثرها في الحياة العامة.
وتعد فرنسا موطنا لإحدى أكبر الجاليات الإسلامية في أوروبا، لكن معدلات العداء للمسلمين فيها من بين الأعلى في القارة.
ووفق بيانات وزارة الداخلية الفرنسية، سُجلت عام 2024 نحو 173 حادثة معادية للمسلمين -معظمها هجمات استهدفت أشخاصا- مقارنة بـ242 حالة عام 2023.
وفي هذا السياق، قال المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا إن تغذية الإسلاموفوبيا جاءت إثر قرار ماكرون في مطلع عام 2018 التوجه نحو اليمين وأقصى اليمين بعدما أدرك أنه لن يتمكن من الفوز مجددا بأصوات ناخبي الوسط واليسار الفرنسي كما فعل في انتخابات 2017.
سياسات الاضطهاد للأقلية المسلمة
تواجه الأقلية المسلمة في فرنسا سلسلة من السياسات التي تسهم في تعميق التمييز وتقنين أشكال الاضطهاد تحت ذرائع قانونية وتنظيمية، ومن أبرز تلك السياسات قانون تجريم ارتداء النقاب في الأماكن العامة والمرافق الحكومية، والذي يعاقب بالغرامة في المرة الأولى، ويتدرج إلى الحبس في حال التكرار.
كما سنّت الدولة قانونا يحظر ارتداء الحجاب داخل المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية.
وتشمل الإجراءات كذلك حظر أداء الصلاة في الشوارع والساحات العامة، بما في ذلك محيط المساجد، وهو ما فُسّر على نطاق واسع بأنه استهداف مباشر للممارسات الدينية الإسلامية.
إعلان
أما على صعيد الهجرة والإقامة فقد رُبط منح أو تجديد الإقامة باجتياز اختبار يثبت إتقان اللغة الفرنسية، واحترام “القيم الجمهورية”، بما في ذلك عدم تغليب المعتقدات الإسلامية على القواعد الفرنسية.
هذه التدابير وغيرها ساهمت في تضييق الحيز العام للمسلمين، وفرضت تحديات يومية تتراوح بين التمييز والعنصرية والعنف اللفظي والمادي.
وقد صنف تقرير عن الإسلاموفوبيا في أوروبا لعام 2022 فرنسا واحدة من أكثر الدول الأوروبية عداء للمسلمين، في ظل تفشي خطاب الكراهية وتراجع مظلة الحماية القانونية لهذه الأقلية.
قوانين صارمة
يُجمع عدد من الخبراء على أن قانون “مناهضة الانفصالية” -الذي قدمته الحكومة الفرنسية عام 2021- يقيد بشكل منهجي الحريات الدينية، ويستهدف بشكل خاص الممارسات الإسلامية.
وقد تبنت الجمعية الوطنية الفرنسية (الغرفة الأولى في البرلمان) في يوليو/تموز من العام نفسه هذا القانون تحت مسمى “مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية”، بعد أن عُرف بداية باسم “مكافحة الانفصالية الإسلامية”، مما أثار جدلا واسعا في فرنسا وخارجها.
وينص القانون على فرض عقوبات تصل إلى السجن 5 سنوات وغرامات مالية قد تبلغ 75 ألف يورو على كل من يدان بارتكاب “جريمة الانفصالية”، والتي تشمل التهديد أو الاعتداء على موظفين عموميين بسبب رفضهم الامتثال لقيم الجمهورية، مثل الحالات التي يُرفض فيها الخضوع لفحص طبي من قبل طبيبة.
وقد ترتبت على تطبيق هذا القانون سلسلة من الإجراءات الصارمة ضد المسلمين تمثلت في إغلاق عدد كبير من المساجد والمدارس الإسلامية ومضايقة الأئمة، فضلا عن إغلاق متاجر ومؤسسات يديرها مسلمون.
ووفقا للبيانات الرسمية، أخضعت الدولة آلاف المؤسسات الإسلامية لتحقيقات، مما أسفر عن إغلاق 900 مؤسسة بالقوة ومصادرة أكثر من 55 مليون يورو من أموالها.