وقد شكلت هذه المبادرة اللبنة الأولى في بناء نظام تعليمي ديني مسيحي، ومع مرور القرون واصل ملوك فرنسا دعم هذا التوجه. ففي القرن الـ13 برز دور الملك أوغوست (1180 ـ 1223)، الذي أوصى بإنشاء المدارس في المدن والقرى الصغيرة.
جامعة باريس الأم
وفي عام 1200 أصدر الملك أوغوست مرسوما من أجل دعم الجامعات وإعفاء الطلاب من الخضوع للقضاء الملكي. وبناء على هذا المرسوم قرر عدد من الأساتذة والطلاب ورجال الدين المسيحيين عام 1215 تأسيس “جامعة باريس”، وهي أول جامعة فرنسية تضع لنفسها لوائح وأنظمة خاصة بها، وأصبحت منافسة في التعليم لكاتدرائية “نوتر دام” بباريس.
ورغم أنه لم تكن لها مبان خاصة بها، فإنها خصصت أماكن للتدريس على ضفاف نهر السين، وبنيت فيما بعد كليات أخرى على جبل “سانت جونيفييف” بالعاصمة الفرنسية.
كانت الجامعة تتكون من 4 كليات رئيسية هي:
- كلية الآداب الحرة.
- كلية القانون.
- كلية الفن.
- كلية اللاهوت.
ولتنظيم الطلاب الوافدين من مختلف أرجاء أوروبا رأت رئاسة الجامعة أنه من الضروري تقسيمهم إلى 4 مجموعات سميت بـ”الأمم” وهي الأمة الفرنسية والرومانية والبيكاردية والإنجليزية.
كما عينت لكل أمة ممثلها الخاص، من أجل ضمان حقوق أفرادها داخل الجامعة.
كلية السوربون
ومن أجل تعزيز العلاقة بين المسيحية والتعليم، أسس أستاذ اللاهوت ومرشد الملك لويس التاسع “روبير دو سوربون” كلية السوربون عام 1253، ثم أصبحت مركزا رئيسيا لتعليم المسيحية وسميت باسمه.
لاقت الكلية في الفترة ما بين 1257 و1259 ترحيبا واسعا من الكنيسة، فقد أشاد البابا ألكسندر الرابع بدورها البارز في تعليم الدين المسيحي.
وكان روبير دو سوربون رئيسا ومشرفا على كلية السوربون منذ تأسيسها، وفي أبريل/نيسان 1268 أصدر البابا كليمان الرابع قرارا أعلن فيه رئاسة روبير دو سوربون للكلية بشكل رسمي، واستمرت رئاسته 20 عاما إلى أن توفي عام 1274.
كما حدد البابا شروطا لمن يخلفه بعد وفاته، تقضي بضرورة الحصول على موافقة رئيس شمامسة كنيسة باريس ومستشار الكنيسة وعمداء كليتي القانون والطب، إلى جانب رئيس جامعة باريس وممثلي الأمم الطلابية الأربع.
منذ ذلك الحين أصبحت كلية السوربون المركز الرئيسي لتعليم اللاهوت، واكتسبت شهرة واسعة وأسهمت في تعزيز مكانة جامعة باريس في أوروبا.
وبحلول عام 1469 أدخلت الكلية أول مطبعة إلى فرنسا، وساعدها ذلك على نشر الكتب والمعرفة بسرعة أكبر، وشكل ذلك نقطة تحول وجعلها تتفوق على المكتبة البابوية.
وفي عام 1606 التحق الطالب أرمان جون دو بليسيس بكلية السوربون للدراسة، وبعد سنوات وبالتحديد سنة 1622 عين مديرا لها وعرف فيما بعد بـ”الكاردينال ريشينيو”، وكلف هو بدوره المهندس المعماري جاك لوميرسييه بتجديد وتجميع مباني الكليات المتفرقة، وإنشاء كنيسة ذات قبة مستوحاة من الطراز الباروكي (1635 ـ 1642) في قلب السوربون الحديثة، والتي أصبحت بعد وفاته ضريحا له.
وبين عامي 1762 و1764 قررت السلطة الملكية -بضغط من البرلمان الفرنسي- طرد اليسوعيين (المسيحيين المتدينين) الذين كانوا يديرون مدارس عدة أهمها كلية “لويس الأكبر”.
وقد طردتهم السلطات بسبب توسع نفوذهم وسيطرتهم على التعليم وتدخلاتهم في الشؤون السياسية، فرأت إدارة جامعة باريس في ذلك فرصة واستحوذت على مباني كلية السوربون واستقرت فيها.
الجامعة الإمبراطورية
بحلول أواخر القرن الـ18 وبعد أحداث اقتحام الباستيل واندلاع الثورة الفرنسية، شهدت جامعة باريس أحداثا مصيرية، ففي 1791 مُنع الطلاب من الدخول إليها ثم ألغيت الجامعة رسميا بقرار من الثورة الفرنسية عام 1794.
كما حول الثوار الكنيسة الموجودة داخل كلية السوربون إلى معتقل تجسيدا للأفكار الثورية، ثم تحولت لاحقا إلى وُرش ومرسم للفنانين.
بعد إعدام الملك لويس السادس عشر عام 1793 ووصول نابليون بونابارت إلى السلطة أسس لإدارة الدولة مجلسا استشاريا عين نفسه رئيسا له مدى الحياة عام 1802، ثم أصبح إمبراطورا عام 1804، وشكل بعدها نظاما تعليميا مركزيا تحت مظلة السلطة.
بين عامي 1806 و1808 أسس بونابارت “الجامعة الإمبراطورية” وجعل منها هيئة تعليمية تضم تحت سلطتها الجامعات والمدارس العليا والثانوية، ومناهج تعنى بالمراقبة التربوية وكلف بقيادة هذا المشروع المفكر أمبرواز روندو.
ولإضفاء طابع شرعي ورسمي على هذا النظام قدم الإمبراطور مشروع قانون خاص بهيكل الجامعة للهيئة التشريعية (البرلمان) اعتمدته عام 1810.
قسم بونابارت الجامعة الإمبراطورية إلى 5 كليات وهي:
- كلية الآداب.
- كلية الطب.
- كلية علوم الرياضيات والفيزياء.
- كلية القانون.
- كلية اللاهوت (المسيحية).

العودة إلى الواجهة
وأعاد القانون الجديد كلية السوربون إلى الواجهة، إذ أوكل إليها مهمة تدريس الآداب الحرة، وهي الآدب والجغرافيا والأدب الفرنسي واللغتان اليونانية واللاتينية، إضافة إلى الفلسفة والتاريخ.
عقب سقوط إمبراطورية نابليون أعيد جمع الكليات التي قسمها بونابارت سابقا، ولكن هذه المرة تحت إدارتها المركزية الخاصة، لتستعيد بذلك دورها القيادي في الإشراف على التعليم العالي في فرنسا.
وفي أوائل القرن العشرين عرفت جامعة باريس عمليات تجديد واسعة، واستقطبت عام 1906 حوالي 4 آلاف طالب، من بينهم نحو 22% من الإناث، وهي نسبة غير مسبوقة في ذلك الوقت.
استمرت النسبة في الارتفاع إلى أن تضاعفت في الثلاثينيات من القرن العشرين ووصل عدد الطلاب الإجمالي إلى 15 ألف طالب.
تميزت جامعة السوربون في أوائل القرن الـ20 بسمعة رصينة، وكوكبة من الباحثين في تخصصات مختلفة، وقد أسهم الزوجان بيير وماري كوري في تعزيز مكانتها بفضل أعمالهما في مجال الفيزياء.
وقد أهّلهما اكتشفاهما للظواهر الإشعاعية الطبيعية إلى الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1903.
وبعد وفاة بيير كوري أوكلت إلى ماري مهمة التدريس، وأصبحت بذلك أول أستاذة جامعية في تاريخ السوربون عام 1906، وقد دخلت التاريخ أيضا لكونها أول امرأة تحصل على جائزة نوبل في مجالين مختلفين، فبالإضافة إلى الجائزة الأولى التي تقاسمتها مع زوجها، فازت عام 1911 بجائزة نوبل في الكيمياء تقديرا لاكتشافها عنصر الراديوم.

تفكك الجامعة الأم
وبين عامي 1914 و1926 أنشأ المعماري هنري بول نينو معهد الجغرافيا في شارع سان جاك، كما شيد معهد الفنون والآثار بين عامي 1925 و1928، الذي صممه المعماري بول بيغو بشارع ميشليه، أما معهد الدراسات الإسبانية فقد شيد عام 1929 وصممه إدوارد لامبلا دو ساريا.
وبعد عام 1945 استمر التوسع عبر إنشاء مبان ومختبرات جديدة مثل الحرم الجامعي أورسييه في 1956 وحرم جوسيو عام 1958، والذي سمي لاحقا حرم بيير وماري كوري وتضمن برج زامانسكي الشهير.
وفي مايو/أيار 1968 انطلقت مظاهرات طلابية في جامعة نانتير، احتجاجا على النظام الجامعي “التقليدي والسلطوي” و”التمييز الاجتماعي الطبقي” ونقص فرص العمل بعد التخرج، وتحولت فيما بعد إلى إضرابات عامة شملت ملايين العمال في البلاد وأحدثت تغييرا جذريا سياسيا واجتماعيا.
وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني من السنة ذاتها أصدر وزير التعليم آنذاك إدغار فور “القانون التوجيهي للتعليم العالي”، المعروف بـ”قانون فور”، والذي منح الجامعات الجديدة نوعا من الاستقلالية، كما أعطى لمجلس إدارة كل جامعة حق انتخاب رئيسها.
ونتيجة لذلك تفككت جامعة باريس “الأم” إلى 13 جامعة مستقلة عام 1970، ومن بينها:
- جامعة باريس 1 ـ بانتيون السوربون.
- جامعة باريس 4 ـ السوربون المتخصصة في الآداب.
- جامعة باريس 6 ـ جامعة بيير وماري كوري (حرم جوسييه سابقا) المتخصصة في العلوم والطب.

السوربون الموحدة
وفي مطلع الألفية الجديدة بدأ تعاون وثيق بين هذه الجامعات المتفككة، ودُمجت جامعة باريس 4 للآداب وجامعة باريس 6 للعلوم.
وتُوج هذا الاندماج عام 2018 بتأسيس جامعة السوربون الموحدة وإعلانها جامعة متعددة الاختصاصات ذات مستوى تعليمي عال.
المقر
تتخذ الجامعة من العاصمة الفرنسية باريس مقرا لها، وتتوزع مبانيها على مناطق عدة في المدينة، يقع المبنى التاريخي للجامعة في الحي اللاتيني ويخصص بشكل رئيسي لكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
بينما يقع حرم جوسييه في الدائرة الخامسة لباريس، وهو مكرس لتدريس العلوم والهندسة. أما حرم الجامعة المخصص لتدريس الطب فيقع في سالبيتريير.
وعلاوة على ذلك تمتلك الجامعة مباني أخرى في مناطق متفرقة في منطقة “إيل دو فرانس” لتدريس اللغات والموسيقى وعلوم البيئة.
تضم جامعة السوربون مجموعة من المرافق الحديثة التي تدعم العملية التعليمية والبحثية، من بينها مكتبة كليانكور ومكتبة ماليرب اللتان توفران مصادر واسعة للطلاب والباحثين في مختلف التخصصات.
كما تحتوي على مراكز ومختبرات وقاعات محاضرات عصرية، فضلا عن مرافق رياضية.
المكانة العلمية
تحتل الجامعة مكانة مرموقة على الصعيد العالمي، فوفقا لتصنيف “شنغهاي” الصيني لأفضل الجامعات العالمية لعام 2022، والمتخصص في تقييم أداء الجامعات حسب التخصص، فقد احتلت جامعة السوربون المركز الثالث عالميا في تخصصي الرياضيات وعلوم البحار.
أما على المستوى الشامل لجميع التخصصات فجاءت في المركز الـ43 عالميا. كما صنفت ضمن أحسن 60 جامعة حسب تصنيف “يو إس نيوز لأفضل الجامعات العالمية” لعام 2024، وقد جاءت في المرتبة الـ56 والثانية على مستوى الجامعات الوطنية الفرنسية.
وفي تصنيف لموقع “تايمز هاير إيدوكيشن” لعام 2025 الصادر عن مجلة تايمز البريطانية، جاءت السوربون في المرتبة الـ76 على مستوى الجامعات العالمية.
الهيكلة
تتكون الجامعة من 3 كليات رئيسية وهي:
- كلية الآداب والعلوم الإنسانية وتضم الأدب والفلسفة والتاريخ واللغات.
- كلية العلوم والهندسة وتشمل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الطبيعة والحياة والهندسة.
- كلية الطب والصيدلة.
وتعتمد الجامعة في تدريسها بشكل كبير على البحث العلمي عبر عشرات المعاهد والمختبرات المتخصصة بالتعاون مع مؤسسات بحثية فرنسية كبرى مثل المركز الوطني للبحث العلمي والمعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية.
العضوية بمؤسسات أكاديمية
تسعى جامعة السوربون إلى تحسين وترسيخ مكانتها على المستويين الأوروبي والدولي، ولذلك فهي تعد عضوا نشطا في العديد من الأكاديميات والهيئات الدولية الجامعية للمؤسسات البحثية حول العالم، أبرزها:
- التحالف الأوروبي
تأسس عام 2018 بمشاركة جامعة السوربون إلى جانب عدد من الجامعات المرموقة مثل جامعة هامبورغ الألمانية وجامعة وارسو البولندية وجامعة ميلانو الإيطالية.
ويهدف إلى تعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي بين الجامعات الأعضاء ويعمل على تطوير نموذج مبتكر للجامعات الأوروبية.
- رابطة الجامعات الأوروبية للبحث
شبكة تضم جامعات أوروبية رائدة في مجال البحث العلمي، انضمت إليها جامعة السوربون عام 2018.
- رابطة الجامعات الأوروبية
تضم الرابطة أكثر من 800 جامعة ومؤسسة تعليمية أوروبية من 48 دولة. وتشارك السوربون ضمن هذه الهيئات والمنظمات عبر مشاريع بحثية ممولة من الاتحاد الأوروبي أو منظمات دولية مثل برامج “أوريزون أوروبا”، إضافة إلى استغلال برامج تبادل الطلبة مثل برنامج “إيراسموس”.
التمويل
تعتمد الجامعة في تمويلها على نموذج متنوع يجمع بين الدعم الحكومي والموارد الذاتية، ففي 2022 بلغت ميزانيتها حوالي 700 مليون دولار، أكثر من 500 مليون دولار منها ممولة من الدولة.
وتركز على الشراكات الأكاديمية الدولية وأبرزها شراكتها مع جامعة السوربون بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي، التي تأسست عام 2006، بهدف تقديم برامج تعليمية في مجالات العلوم الإنسانية والقانون والعلوم وفقا للمعايير الأكاديمية الفرنسية.

كما تستند إلى جمع التبرعات من الجمهور، فقد أطلقت عام 2018 حملة لجمع نحو 108 ملايين دولار، وأوضحت الجامعة أن الهدف من ذلك هو تسريع تنفيذ عدد من المشاريع وتعزيز قدرتها على التطوير والابتكار، وليس للتعويض عن أي نقص في تمويل الدولة.
وقد نجحت الجامعة في جمع نصف المبلغ بحلول عام 2021 عبر ما عرف بـ”الحملة الصامتة”، وهي مرحلة تمهيدية في مثل هذا النوع من الحملات.
وجاءت التبرعات بشكل أساسي من شركات ومؤسسات خاصة، إضافة إلى مساهمة عدد من الأفراد.
وتركز إدارة الجامعة بشكل أساسي على التسيير وتطوير الشراكات وتحرص على تنويع مصادر التمويل، وبلغت ميزانية الجامعة في 2025 نحو 730 مليون دولار.
شروط الالتحاق بالجامعة
تختلف متطلبات قبول الطلاب بحسب التخصص والمستوى الأكاديمي، لكن مستوى اللغة الفرنسية يعد شرطا أساسيا، ويطلب في كلية الآداب والعلوم عادة مستوى لا يقل عن “بي 2” وفق الإطار الأوروبي المرجعي للغات لطلاب السنة الأولى بكالوريوس.
أما كليات الهندسة والطب فيطلب مستوى أعلى وهو “سي 1” للراغبين في دراسة الماجستير، وتقدم الجامعة دورات مجانية مكثفة للطلبة الدوليين المسجلين في المرحلة الجامعية الأولى.
ويطلب من الطلبة الدوليين الراغبين في الالتحاق بالسوربون اجتياز اختبار فرنسي مثل “تي سي إف ” أو”ديلف” أو”دالف” في المراكز الثقافية الفرنسية الموجودة في بلدانهم.
وبلغ عدد طلبة جامعة السوربون في 2025 أكثر من 50 ألف طالب.
وتستمر جامعة السوربون الموحدة في تقديم تعليم عالي الجودة مركزة على البحث والابتكار، فهي واحدة من أبرز المؤسسات التعليمية في فرنسا والعالم.