أفراح رغم الجراح وزفة وسط الركام
لم ينجُ أعضاء فرقة “أصايل” من تبعات العدوان الإسرائيلي المستمر، فبينما فقدوا زميلتهم تالا إياد بعلوشة عام 2023، جاءت إصابة عبود أبو سمرة برصاصة في صدره -في السادس من أغسطس/آب- لتشكّل صدمة أخرى، إذ ما زال يرقد في حالة حرجة حتى الآن. ورغم كل ذلك، فلم تتوقف الفرقة عن عملها، فالأفراح باتت أقل، لكنها لم تنعدم. يقول شادي عائد سامي صبح للجزيرة نت: “آخر مرة أحييت فيها فرح كانت في الثاني من أغسطس/آب 2025 بمنطقة مواصي خان يونس، لكن الأجواء لم تعد كما كانت قبل العدوان؛ صارت أقرب إلى العزاء، نذهب لنحتفل شكليا، بينما الجراح تملأ القلوب”.
شادي (32 عاما) تزوج عام 2022، لكنه لم يتخيل أن طفولة ابنه ستُقضى بأكملها وسط المجاعة والإبادة في شمال قطاع غزة، وتحديدا في بيت لاهيا. يجد نفسه اليوم أمام امتحان قاسٍ، إذ إن جوهر عمله قائم على نشر السعادة والطاقة الإيجابية، بينما يفرض الواقع من حوله قسوة لا تمنح لذلك أي مساحة.
زراعة الأمل بين خيام النزوح
ما الذي يمكن أن تقدمه فرقة لإحياء الأفراح وسط هذا الكم من الحزن والركام؟ بالنسبة لشادي ورفاقه في فرقة “أصايل”، كانت الإجابة تكمن في الفن كأداة للمقاومة والدعم النفسي. لقد تحوّل هدفهم من إحياء الليالي الملاح إلى محاولة زرع بذور الفرح في قلوب الأطفال والنازحين.
يقول شادي: “نقوم اليوم عبر فرقة أصايل بنشر البهجة في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء والمدارس، لنصنع أجواء من الفرح وننقل في الوقت نفسه جزءا من الموروث الثقافي الفلسطيني إلى الأجيال الجديدة. نحن نتحمل مسؤولية الحفاظ على الفنون الشعبية مثل الدبكة والدحية والأغاني التراثية، وفي الوقت ذاته نخفف الضغوط النفسية عن مختلف فئات المجتمع من خلال عروضنا الفنية التي يحضرها الجميع، كبارا وصغارا. كما نحرص على تعليم الأطفال الدبكة الفلسطينية، وأعتبر ذلك شكلا من أشكال الإسعاف النفسي الأولي، بسيطا لكنه مبهج، ويُعرّف العالم أيضا بتراثنا الفني والثقافي الذي يجب الحفاظ عليه”.
بهذا الدور، تحاول الفرقة أن تزرع الأمل بين الخيام، مؤكدة أن للفن قدرة على تضميد الجراح، ولو جزئيا، وأن الحفاظ على الهوية الثقافية هو شكل آخر من أشكال الصمود.
مهمة ليست سهلة
يسمونها أحيانا “رقصة الحرية”، وأحيانا أخرى “رقصة أصحاب الأرض”، إنها الدبكة الفلسطينية، الرقصة التي اشتهرت عالميا بخطواتها السريعة وغير المتوقعة، وبقدرتها على تجسيد روح الجماعة والصمود.
يقول شادي، المولود عام 1993: “خطوات الدبكة الفلسطينية ليست سهلة، فهي تقوم على الإيقاع والنسق والحركة واللياقة البدنية، وتجمع كل ذلك في ضربة واحدة. التدريبات جادة وتحتاج من الطفل أو المتدرب أن يكون سليما بدنيا، قادرا على القفز والحركة بسرعة وبمهارة”.
ويضيف: “لكي يصبح الشخص ’دبّيكا‘، يحتاج إلى ما بين 4 و6 أشهر من التدريبات المتواصلة، ليحصل على تأسيس صحيح ويتعلم الحركات الأساسية. لكن هذا لا يعني أنه أتقن الدبكة تماما، فالفلكلور يتطور كل يوم، ومع تطور التكنولوجيا وإيقاع الحياة صار التراث بحاجة إلى تجريب متواصل وتدريب منتظم”.
بهذا المعنى، تبدو الدبكة أكثر من مجرد رقصة؛ إنها تجربة تعلم وانضباط وصمود، تحتاج إلى جهد وصبر، مثلها مثل الهوية الفلسطينية التي تجدد نفسها باستمرار رغم كل الظروف.
دبكة من دون طعام!
لا يحصل شادي على مقابل مالي من عائلات الأطفال الذين يقوم بتدريبهم، يقول: “أقوم بهذا كمبادرة شخصية لنقل الموروث الثقافي وتعليم التراث الفلسطيني ونقله من جيل لجيل، أحيانا يكون هناك مقابل عندما تكون هناك احتفالات، سواء فعاليات أو مهرجانات، أو أفراح، عادة ما يكون بسيطا، وأحيانا لا يكون هناك مقابل تماما”.
يقوم حاليا بتدريب مجموعة من 30 طفل خطوات الدبكة الفلسطينية، يرى من بين المجموعة فتيات مميزات يذكرهن بالاسم مثل نغم صرصور، وليان عطوة، وريماس التلولي. لا ينسى أبدا تلك الجملة التي قالتها لجين أبو شاويش، حين توقفت فجأة في منتصف التدريب وقالت له: “يا كابتن، ما تعبت من التدريب، لكن من قلة الأكل”.
مع ذلك، يرى مدرب الدبكة الشاب أن ما يقوم به مع زملائه مهمة تستحق الجهد والمثابرة، ويصفها بأنها رسالة تتجاوز حدود الفن. يقول شادي: “الدبكة الفلسطينية هي شكل من أشكال المقاومة والصمود. أحرص على نشر مقاطع من التدريبات والرقصات على حسابات الفرقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ودائما ما أفاجأ باهتمام أشخاص من مختلف دول العالم بمحتوانا الفلسطيني. هذا الفضول يدفعهم للسؤال أكثر عن فنوننا التراثية وإلى ماذا ترمز الدبكة، ومن هنا يتعرفون على فلسطين بصورة أوضح”.
ويتابع: “بهذا الشكل، نكسب دعما جديدا لقضيتنا عبر وسيلة سلمية تصل إلى العالم كله. الدبكة بالنسبة لنا ليست مجرد رقصة، بل إنها سلاح ثقافي يثبت أن فلسطين أرض محتلة تعاني، ومع ذلك نحاول كالعنقاء أن ننهض من تحت الرماد، لا نستسلم، ونواصل المحاولة لإثبات أننا نستحق الحياة وأن النصر حليفنا مهما طال الطريق”.