ومن اللافت، أن العديد من وسائل الإعلام الدولية، أبدت ـ في وقت سابق للعرض ـ اهتماما خاصا، بنتائج استطلاعات الرأي، التي أظهرت اتجاها متزايدا، للمشاعر الإيجابية بين الشباب العربي تجاه الصين، لا سيما أن المنطقة العربية تحظى بنسبة كبيرة من الشباب، حيث يشكل من تقل أعمارهم، عن 30 عاما حوالي 60% من إجمالي السكان.
وغالبيتها كانت استطلاعات قد أجرتها، منصات إعلامية متخصصة، وتحظى بمصداقية لا تخطئها عين المراقب، مثل صحيفة غلوبال تايمز، الباروميتر العربي، وشركات علاقات عامة، لها مقار في عواصم عربية.
ويعتقد ميريسا خورما، من مركز ويلسون، أن هذا ليس مفاجئا على الإطلاق، بالنظر إلى الخطاب الذي تضخمه الصين في المنطقة. إذ يشدد الصينيون في تغطيتهم الإعلامية، على أن بلادهم لم تتدخل عسكريا في العالم العربي، على عكس الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، تركز التغطية الإعلامية بشكل كبير على قصة النجاح الاقتصادي الصيني والتعاون الاقتصادي بين الصين والمنطقة، فيما تؤكد الأرقام تفوق الخطاب الاقتصادي على أي شيء آخر.
فضلا عن أن العديد من الحكومات، وقادة الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يعتقدون أن الصين شريك جيد وموثوق وغير سياسي، قادر على تزويدهم بالتكنولوجيا والتجارة، دون قيود حقوق الإنسان، والشروط الغربية المسيسة، كما يقول جيانغي يانغ، الباحث الصيني والناشط في مجال حقوق الإنسان.
وربما عزز هذا الإحساس بالسعادة، في الخطاب الشعبوي العربي، أن العرض العسكري الصيني، كان مستفزا للإدارة الأميركية، وكتب الرئيس ترامب على منصته “تروث سوشيال” ـ في إشارة محتملة إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ ـ “أرجو إبلاغ تحياتي الحارة إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، لأنكما تتآمران ضد الولايات المتحدة الأميركية”، دون الخوض في التفاصيل.
وفقا للعديد من صانعي السياسات الأميركيين، يشكل الوجود الصيني المتنامي والنشط في الشرق الأوسط، تهديدا لمصالح الولايات المتحدة واستقرار المنطقة.
وفي عام 2022، جادل وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة آنذاك، كولين كاهل، حول دور بكين في المنطقة قائلا: “تسعى جمهورية الصين الشعبية إلى بناء علاقات قائمة فقط على مصالحها الضيقة، والمعاملاتية، والتجارية، والجيوسياسية… متجاوزة الاستثمارات الجادة في الأمن الإقليمي”.
واتفق جنرال بارز في القوات الجوية الأميركية مع هذا الرأي، مؤكدا أن الصين، من خلال توسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، تسعى إلى “إزاحة” الولايات المتحدة من المنطقة.
وتعتقد الباحثة الأميركية في مؤسسة كارنيغي، أن هذه الرواية مضللة، فبدلا من محاولة اغتصاب النفوذ الإقليمي الأميركي، يفهم دور الصين المتزايد، على أنه دليل على التحول الجيوسياسي الأوسع في المنطقة نحو تعدد التحالفات.
وتحديدا، لم تعد دول الشرق الأوسط تبحث، عن “شريك مفضل” واحد، كما تفضل واشنطن أن ترى نفسها، بل تسعى دول عديدة، إلى تنويع الشراكات كأفضل سبيل للحفاظ على استقلاليتها، وتحقيق مصالحها الذاتية.
وقد فتح هذا التوجه، نحو تعدد التحالفات، الباب أمام مشاركة أكبر لبكين في المنطقة، ولكنه خلق أيضا اهتماما جديدا، في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بشراكة أكبر مع الهند، وكوريا الجنوبية، واليابان، وتركيا، وقوى متوسطة أخرى.
فالاستعراض لم يؤشِر، على انتقال هيمنة القطب الواحد، من واشنطن إلى بكين، بل سلط الضوء على سعي الصين، إلى ترسيخ مكانتها كقطب مركزي، في عالم متعدد الأقطاب أصلا.
ويستند آخرون إلى أميتاف أشاريا، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية، وما ورد في كتابه “نهاية النظام العالمي الأميركي”، مؤكدا أنه لم تصل الولايات المتحدة بعد عام 1945 إلى مستوى القوة العظمى فحسب بفضل اقتصادها الضخم، بل بفضل اقتران قوتها الاقتصادية بالقوة العسكرية، والتفوق التكنولوجي، والشرعية السياسية، ونظام تحالفات كثيف، وكان الدولار عملة عالمية قابلة للتحويل، وقاعدة تداول آجلة عبر قارات متعددة، وبنية مؤسساتية رسخت تفوقها، لقد كان صعود الأميركي شاملا.
ويرى بيمان صالحي في معهد كوينسي responsible statecraft أن الاعتقاد بأن الصين، هي القوة المهيمنة التالية، سابق لأوانه؛ إذ لا تزال الصين تفتقر إلى العديد من السمات النظامية ، التي عززت تفوق الولايات المتحدة.
فالرنمينبي – العملة الصينية – ليس قابلا للتحويل بالكامل بعد، ولا يمكنه ترسيخ النظام المالي العالمي كما فعل الدولار.
إن لدى بكين شركاء ومنظمات، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، لكنها لا تمتلك نظام تحالف، يضاهي حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو شبكة المعاهدات الأميركية في آسيا، فضلا عن أن قواعدها الخارجية محدودة، وقدرتها على نشر قوتها عالميا محدودة كذلك، مقارنة بهيمنة واشنطن البحرية والجوية.
ولعل النظام العربي الرسمي يدرك ذلك جيدا، وعلى وعي بأن ما أظهره العرض العسكري كان تقدما ونية، وليس وصولا للقطب الواحد.
قد يكون من حقائق اللحظة الراهنة، أن النظام الدولي الذي تأسس، بعد الحرب العالمية الثانية، وتفكك الاتحاد السوفياتي، قد تآكلت ثقة العالم فيه، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وحرب الإبادة المنفلتة من أي عقاب في غزة.
ولعل رفع واشنطن يدها عن الجميع إلا إسرائيل، قد ترك انطباعا بأن المستقبل، لن تحدده قوة عظمى واحدة، أو قوى عظمى منفردة “أميركا”، وأنه قد تشكله قوى كبرى متعددة، ولكن في ظل الاتجاهات الحالية، تضيق فرص الصين في تجاوز الولايات المتحدة.
ويرى خبراء مثل جورج ماغنوس أن هذا التجاوز الكبير قد لا يحدث أبدا، مع تباطؤ نمو الصين وتزايد نقاط ضعفها الهيكلية.
إن إدراك هذه الحقيقة، قد يساعد في تجنب التوقعات المزيفة، التي ما انفكت تتدافع بقوة لتشكل وعيا جماهيريا عربيا مبالغا فيه، بشأن قدرة الصين على أن تزيح الولايات المتحدة الأميركية، عن هيمنتها الأمنية والاقتصادية على العالم، والعرب في القلب منه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة نيوز عربي.