اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
أثار تصريح سانشيز أصداء واسعة خاصة في إسرائيل التي تعمدت تحريف كلامه عن موضعه واتهمته بالتهديد بإبادة الدولة اليهودية. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو معلقا: “يبدو أن محاكم التفتيش الإسبانية، وطرد يهود إسبانيا، والمحرقة النازية لم تكن كافية بالنسبة لسانشيز”، وفق زعمه.
كما شن وزير الخارجية جدعون ساعر هجوما على إسبانيا زاعما غياب الوعي التاريخي بما سماه “جرائم إسبانيا ضد الشعب اليهودي، بما في ذلك جرائم محاكم التفتيش”.
تشير هذه الجولة من السجالات اللفظية بين إسبانيا وإسرائيل إلى حجم الإزعاج الذي يسببه بيدرو سانشيز وحكومته لدولة الاحتلال، بوصفه -ربما- السياسي الأوروبي الأرفع مكانة الذي يهاجم إسرائيل بكل هذا الوضوح والضراوة.
فسانشيز بعد كل شيء ليس مجرد ناشط مشهور أو شخصية إعلامية أو فنية بارزة تحشد الرأي العام أو مسؤول كبير في دولة أوروبية هامشية، وإنما هو رئيس وزراء إحدى أهم الدول الأوروبية، وقد قاد دولته العام الماضي لتصبح الدولة الأفضل من ناحية الأداء الاقتصادي في قائمة الدول الغنية التي تضم 37 دولة، وفق مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي وأداء سوق الأسهم والتضخم الأساسي والبطالة ومستويات العجز الحكومي، كما أشارت إليه مجلة إيكونوميست البريطانية.
يعني ذلك أن هذا الصوت المناهض بشدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحاول توجيه السياسات الأوروبية لتكون “أكثر عدالة” بشأن حق الفلسطينيين يخرج من مسؤول مشهود له بالنجاح في بلده، مما يعني أن تأثيره ربما يتجاوز حدود إسبانيا، كما يعد أحد الأصوات الرسمية القليلة التي تجمح النزوع إلى “التطرف اليميني” في أوروبا، وهو ما يفسر الغضب والتركيز الكبير من قبل دولة الاحتلال على خطاب سانشيز المناهض لها.
بيدرو سانشيز.. سيرة ذاتية سياسية
منذ بداية مساره السياسي تدرج بيدرو سانشيز في صفوف اليسار الإسباني. انضم بيدرو لعضوية حزب العمال الاشتراكي الإسباني عام 1993، وأصبح مستشارًا سياسيًّا في البرلمان الأوروبي وفي الأمم المتحدة بعد ذلك أثناء حرب كوسوفو، ثم صار عضوًا في مجلس مدينة مدريد في عام 2004.
وبحلول عام 2009 أصبح سانشيز عضوا في البرلمان الإسباني عن العاصمة مدريد، وفي عام 2011 لم ينس بيدرو سانشيز في خضم عمله السياسي وصعوده المهني، أن يوازن العمل السياسي بالثقل الأكاديمي فحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد.
في عام 2014 حقق بيدرو انتصارًا لم يتوقعه أحد، فبعد تنحي زعيم حزب العمال الاشتراكي الإسباني آنذاك ألفريدو بيريز روبالكابا عن موقعه على إثر الأداء السيئ للحزب في الانتخابات الأوروبية، استطاع بيدرو سانشيز أن يفوز في الانتخابات التي تلت التنحي ليصبح زعيمًا للحزب، وقد وصفت صحيفة إلباييس الإسبانية الفوز آنذاك بأنه “لم يكن متوقعًا” إذ كان بيدرو سانشيز “شخصية شبه مجهولة” بالنسبة للجمهور الإسباني بحسب تعبير الصحيفة.
رسّخ هذا الانتصارُ سمتين أساسيتين ستتميز بهما بقية مشوار بيدرو فيما بعد، وهما الطموح والقدرة على القدوم من بعيد لتحقيق انتصارات غير متوقعة مقتنصا الفرص السانحة على أكمل وجه.
ومنذ توليه زعامة الحزب أكد بيدرو سانشيز أن هدفه هو بناء قيادة حزبه على نفس درجة “يسارية” القاعدة الشعبية للحزب مع تجنب الشعبوية المفرطة، وقد كانت نظرة سانشيز ثاقبة في التركيز على ذلك الهدف، حيث كانت قطاعات واسعة من القواعد الشعبية التي تنتخب اليسار في مختلف البلاد الأوروبية تعيب عليه أنه حين يصل للسلطة تكون نبرته وأفعاله أقرب إلى الوسط وأنه يتردد في تطبيق تغييرات جذرية في الاقتصاد أو المجتمع أو السياسة، وقد كان ذلك سببًا في تحول الكثير من القواعد العمالية لانتخاب اليمين في العديد من الدول الغربية.
غير أن الرياح أتت بما لم تشته السفن، فسرعان ما استُبعد سانشيز من زعامة الحزب دون أي مراسم رسمية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 في أعقاب فشل محاولته لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية وتمسكه بموقف راديكالي بمنع زعيم حزب الشعب المحافظ (يمين) من تشكيل الحكومة، وهو ما تسبب في انقسام كبير داخل الحزب الاشتراكي إذ أراد بعض قادة الحزب تجنب إجراء انتخابات جديدة ومن ثم السماح لماريانو راخوي زعيم حزب الشعب بقيادة الحكومة.
نتيجة لهذا الانقسام، شهد الحزب انقلابًا على بيدرو سانشيز أدى لإبعاده عن موقعه لكنه احتفظ بمقعده البرلماني وظل يعارض بشدة -بحسب منصة دويتش فيلله- الألمانية السياسات الاقتصادية التي حكم بها المحافظون البلاد وتحديدًا تخفيضات الإنفاق وتقليص دولة الرفاه ومخصصات الرعاية الاجتماعية
وبالتزامن، قرر سانشيز القيام بمغامرة غريبة من نوعها إذ صرح بأنه سيذهب في رحلة بسيارته يطوف فيها جميع أنحاء إسبانيا لينصت لمن لا صوت لهم، للشعب وللمهمشين وللناخبين الذين يطمحون في التغيير لكن صوتهم لا يُسمع وأحلامهم لا تُمثل.
تنقّل سانشيز بين المدن والشوارع والمقاهي قاطعا مسافة 40 ألف كيلومتر يخاطب الناخبين ويناقشهم ويستمع إلى أحلامهم، وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية فإن هذه الرحلة التي اختلط فيها سانشيز بالساخطين في مختلف أنحاء إسبانيا مكنته من الفوز مجددا وبسهولة كبيرة، بقيادة حزب العمال الاشتراكي بعد سبعة أشهر فقط من إزاحته.
كان انتصار سانشيز بمثابة فوز بـ”الضربة القاضية” على المؤسسة العميقة في الحزب التي أزاحته من قبل، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد.
ففي يونيو/حزيران 2018 كان سانشيز على موعد مع انتصار أهم إثر توليه منصب رئيس الوزراء لحكومة أقلية بعد نجاحه في تمرير تصويت بحجب الثقة عن الحكومة المحافظة بقيادة راخوي، بالتحالف مع حزب بوديموس اليساري الراديكالي وغيره من الأقليات البرلمانية مثل القوميين الباسكيين والاستقلاليين الكاتالونيين، وهو أول تصويت ناجح لحجب الثقة في البرلمان الإسباني خلال حقبة ما بعد فرانكو.
وعلى عكس التوقعات غير المتفائلة بشأن مستقبل حكومة سانشيز، استطاع رئيس الوزراء الحفاظ على منصبه منذ ذلك الحين وحتى اليوم. وبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عام 2020، استطاع سانشيز بعد توليه المسؤولية أن يقوم بإجراءات لفتت الأنظار إليه بقوة وأكسبته دعمًا كبيرًا من قاعدته الجماهيرية اليسارية، إذ رفع الحد الأدنى للأجور وعين حكومة تهيمن عليها النساء واستقبل سفينة مهاجرين كانت إيطاليا رفضت استقدامها.
وبحسب نفس التقرير، استطاع سانشيز في الواقع أن يفعل شيئًا يجد السياسيون عادة صعوبة في فعله إذ رفع شعبية حزبه بشكل سريع في أعقاب وصوله إلى الحكم مقارنة بشعبية الحزب حين كان في المعارضة، مما دفع أستاذ علم الاجتماع في جامعة مدريد المستقلة جوزيب لوبيرا للقول إن سانشيز “نجح في إظهار نفسه للجمهور رجلا جادا ومؤهلا لمنصبه”.
في الواقع، ارتبطت فترة رئاسة بيدرو الطويلة والمستمرة حتى الآن للحكومة في إسبانيا بتقدم اقتصادي ملحوظ في البلاد التي كانت قد عانت سنوات طويلة من أدائها الاقتصادي السيئ.
وفي العام الماضي (2024) وصفتها مجلة إيكونوميست البريطانية في تقرير بعنوان “ما الذي يمكن أن تعلمه إسبانيا لبقية أوروبا” بأنها أصبحت موضع حسد الدول الغنية الأخرى، بفضل أدائها الاقتصادي المميز.
وعلى الرغم من أن الازدهار الاقتصادي الذي شهدته إسبانيا في السنوات الماضية يعود في جزء كبير منه إلى تدفق السياح على البلاد، وزيادة أعداد المهاجرين مما خلق استهلاكًا ونموًّا، إضافة إلى المنح الأوروبية التي تلقتها إسبانيا في أعقاب جائحة كوفيد-19، إذ كانت ثاني أكثر دول القارة تلقيًا لتلك المنح بعد إيطاليا، لكن هذه العوامل لم تكن لتأتي ثمارها لولا السياسات الحكومية الناجعة.
فمدريد استطاعت أن تخلق بيئة مرحبة بالمهاجرين وسهلة نسبيًّا بالنسبة لهم -على عكس جارتها إيطاليا مثلا- ومن ثم جذبت مهاجرين أكثر ذوي مهارات أعلى واستطاعت دمجهم في اقتصادها بسهولة، كذلك فإن الطفرة التي تشهدها صناعة السياحة في البلاد لم تكن لتحدث لو لم تخلق الدولة بيئة محفزة لها.
وأخيرا، فقد أثبتت التجارب أن المنح لا تخلق النمو وحدها كما تدل عليه تجربة إيطاليا صاحبة النصيب الأكبر من المنح الأوروبية خلال حقبة كورونا إذ كان أداؤها الاقتصادي أضعف بكثير من أداء بإسبانيا.
لقد كان موقف سانشيز من الهجرة تحديدًا ثوريًّا للغاية، ففي الوقت الذي كان اليمين يجتاح فيه العالم الغربي مستندًا بالأساس على النفور المتزايد من المهاجرين كان بيدرو سانشيز لا يتحرج من أن يقول للجماهير في إسبانيا إن الهجرة نعمة وفرصة للاقتصاد الإسباني، وهو يدعم ذلك بالأرقام إذ يؤكد أن الهجرة قد مثلت 25% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، و10% من عائدات الضمان الاجتماعي، و1% فقط من إنفاق البلاد العام.

أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد رسم بيدرو سانشيز سياسته الخارجية بحسب وصفه على أساس المبادئ والأخلاق من منظور عالمي دون أن تكون مرتبطة بالضرورة بحدود العالم الغربي، ومن ثم فلم يتوان سانشيز بعد تولي دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية في انتقاد الدور الذي تؤديه الولايات المتحدة تحت ولايته، إذ عبر عن أسفه أن تكون الدولة التي كانت هي المهندس للنظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية هي الآن من تضعف هذا النظام.
في الواقع فإن موقف بيدرو العنيد اتجاه ترامب وإدارته ربما يمثل مفتاحًا مهمًّا لفهم موقفه العنيف من حليفة الولايات المتحدة الأقرب وهي دولة الاحتلال الإسرائيلي، فبيدرو هو أحد الزعماء الأوروبيين القلائل الذين يتحدون ترامب بوضوح كبير لا لبس فيه، وبحسب تعبير مجلة إيكونوميست البريطانية فإن ترامب “يكرهه” لأنه يحث الاتحاد الأوروبي على محاربة التعريفات التجارية الأميركية، كما أنه يهاجم مليارديرات التكنولوجيا الأميركية ويتهمهم بأنهم يعرضون الديمقراطية للخطر.
والأهم من ذلك أنه في يونيو/حزيران الماضي كان سانشيز ممثلًا عن إسبانيا هو السياسي الأوروبي الوحيد الذي رفض خلال قمة حلف شمال الأطلسي على نحو قاطع طلب رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب أن تنفق الدول الأعضاء في الاتحاد 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، إذ تعهد سانشيز حينها بدفع 2.1% فقط معتبرًا أن هدف ترامب يناقض رؤية إسبانيا لأهدافها.
سانشيز وفلسطين.. امتداد للإرث الإسباني
كثيرا ما يفسر هجوم بيدرو سانشيز على إسرائيل ودفاعه عن الحقوق الفلسطينية على أنه نابع من توجهه اليساري، ورغم أن ذلك صحيح جزئيا، فإن الإرث التاريخي الإسباني -العابر للحزبية- في هذا الصدد، ربما ساهم بدرجة كبيرة في تشكيل وعي سانشيز بهذه القضية ومواقفه منها.
في إسبانيا هناك دعم شعبي واضح للفلسطينيين يخالف الانحياز السائد لإسرائيل في أوروبا (قبل حرب الإبادة الحالية)، وللمفارقة فإن ذلك ينطبق على اليمين واليسار كليهما وإن كان أكثر وضوحا في صفوف اليسار.
لم تشارك إسبانيا في الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن الإسبان “لم يشعروا قط بمسؤولية خاصة عمّا عنته إقامةُ دولة إسرائيل بوصفها حلا محتملا للهولوكوست ولوضع اليهود الأوروبيين الذين عانوا تحت النازية والفاشية”، بحسب لوس غوميز، أستاذة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة في حديث لـ”بي بي سي”.
وأكثر من ذلك فإن انحياز إسبانيا النسبي إلى دول المحور خلال الحرب وعزلتها الأوروبية نتيجة لذلك جعلها أكثر حرصا على علاقاتها مع دول جنوب وشرق المتوسط. وحتى في أعقاب تأسيس الديمقراطية الإسبانية بعد سقوط حكم فرانكو عام 1975، لم ترغب إسبانيا في تعريض “صداقتها التقليدية مع الدول العربية” للخطر، والتي كانت “أكثر قيمة بكثير من أي علاقات محتملة مع إسرائيل”.
ونتيجة لذلك أقامت الحكومة الإسبانية علاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وافتتحت مكتبا تمثيليا للمنظمة في مدريد عام 1979، كما استضافت زعيمها ياسر عرفات الذي تلقى عناقا حارا من أدولفو سواريز، أول رئيس حكومة في عهد الديمقراطية الإسبانية، لتصبح إسبانيا أول بلد غربي يستضيف الزعيم الفلسطيني.
وحتى حين أرادت إسبانيا الاعتراف بإسرائيل عام 1986 الذي كان شرطا لانضمامها للجماعة الاقتصادية الأوروبية (الاتحاد الأوروبي حاليا) فإن ذلك لم يحدث إلا بعد مشاورات مطولة مع الدول العربية وصحبته رسالة شخصية توضيحية من رئيس الوزراء آنذاك فيليبي غونزاليس إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية.
ورغم أن العلاقات الإسبانية الإسرائيلية تعمقت على الصعيدين الاقتصادي والعسكري منذ ذلك الحين، فإن مدريد حافظت نسبيا على تقاليد علاقاتها مع الفلسطينيين، فصوتت على سبيل المثال في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 لمنح فلسطين صفة “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة في عهد حكومة يمينية محافظة بقيادة رئيس الوزراء ماريانو راخوي.
ورث سانشيز هذا الإرث الإسباني في التعاطف مع الفلسطينيين، الذي عززته حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. فبحسب استطلاع حديث أجراه معهد إلكانو الملكي في مدريد، هناك 82 في المئة من الإسبان يصفون ما تفعله إسرائيل في غزة بأنه “إبادة جماعية”، وترتفع النسبة لتصبح 97% بين صفوف المنتمين إلى اليسار وتبلغ 85% في صفوف الوسط، وتنخفض نسبيا إلى 62% في صفوف اليمين مما يعني أن هناك إجماعا عابرا للحزبية في إسبانيا على نبذ إسرائيل وأفعالها.
ما يفعله بيدرو ببساطة هو التماهي مع الرأي العام المتصاعد في بلاده، بعكس العديد من السياسيين الغربيين الذين يتجاهلون التغيرات المتسارعة في نظرة الشعوب للقضية.
فبحسب استطلاع لمركز بيو الشهير في يونيو/حزيران الماضي شمل 24 دولة منها إسبانيا، هناك 20 دولة يمتلك أكثر من نصف المواطنين البالغين فيها رأيا سلبيا اتجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، وتصل هذه النسبة إلى حوالي ثلاثة أرباع البالغين أو أكثر في كل من إسبانيا وأستراليا واليونان وإندونيسيا واليابان وهولندا والسويد وتركيا.
لم يكن مستغربا إذن أن يكون سانشيز هو أول مسؤول أوروبي يصف ما يحدث في غزة صراحة بأنه “إبادة جماعية”، فضلا عن الإجراءات الإسبانية الأخرى وفي مقدمتها اعتراف مدريد رسميا بالدولة الفلسطينية في مايو/أيار 2024، ودعوتها إلى التعليق الفوري لاتفاقية الشراكة الأوروبية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وانضمامها لاحقا إلى الدعوة التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فضلا عن إعلان القضاء الإسباني فتح تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في غزة لتقديم أدلة إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وأخيرا وليس آخرا، إلغاء مدريد المرحلة الختامية من سباق “طواف إسبانيا للدراجات” بعدما اقتحم محتجّون المسار احتجاجًا على الهجوم الإسرائيلي على غزة ومشاركة فريقٍ إسرائيلي في السباق، في تحرك نال إشادة علنية من رئيس الوزراء بكون “الشعب الإسباني يتحرّك من أجل القضايا العادلة، كقضية فلسطين”، ودعا بالتزامن مع ذلك إلى منع إسرائيل من المشاركة في الفعاليات الرياضية الدولية أسوة بما حدث مع روسيا بسبب حربها على أوكرانيا.
على مستوى أكثر عملية، قررت مدريد فرض سلسلة من العقوبات على إسرائيل بسبب الحرب في غزة. بادئ ذي بدء أضفت مدريد طابعا رسميا على حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، بما يشمل إلغاء عقد بقيمة 700 مليون يورو لشراء قاذفات صواريخ إسرائيلية التصميم.
كما ألغت وزارة الدفاع صفقة شراء 168 قاذفة و1680 صاروخا مضادا للدبابات من شركة رافائيل الإسرائيلية بقيمة 287.5 مليون يورو، بحسب صحيفة إلباييس. وألغت وزارة الداخلية الإسبانية عقدا لشراء ذخيرة بقيمة 6.8 ملايين يورو من شركة إسرائيلية، وقررت مدريد أيضا إغلاق موانئها ومجالها الجوي أمام السفن والطائرات التي تحمل أسلحة إلى إسرائيل.
أكثر من ذلك، قررت مدريد رسميا منع جميع المتورطين بشكل مباشر في الإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في قطاع غزة من دخول إسبانيا، بما يشمل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزير المالية سموتريتش.
وتشمل العقوبات الأخرى، حظر استيراد المنتجات القادمة من المستوطنات الفلسطينية التي اغتصبها الإسرائيليون، وتقييد الخدمات القنصلية المقدمة للمواطنين الإسبان المقيمين في تلك الأراضي، وتعزيز التعاون مع دولة فلسطين، وزيادة عدد الموظفين في بعثة المساعدات التابعة للاتحاد الأوروبي عند معبر رفح، وزيادة المساهمة المقدمة للأونروا بمقدار 10 ملايين يورو، ورفع حجم المساعدات الإنسانية إلى غزة ليصل إلى 150 مليون يورو.
السياسة الداخلية.. وحدود الدعم الإسباني
بشكل عام، يمكننا القول إن رئيس الوزراء الإسباني أصبح هو الصوت الغربي الأبرز في مناهضة الحرب الإسرائيلية، الذي لم يكتف بالخطابة بل نفّذ إجراءات شاملة لإدانة الإبادة وفق ما تسمح به قدرة بلاده بوصفها “قوة متوسطة” على الساحة الدولية.
وكما ذكرنا فإن هناك اعتبارات تاريخية وأيديولوجية وشعبية يمكن أن تفسر هذا الدعم الذي يفضل سانشيز صياغته من منظور أخلاقي وقانوني، واصفًا الحملة العسكرية الإسرائيلية بأنها “إبادة لشعب أعزل” و”انتهاك لجميع القوانين الإنسانية”.
لكن هناك اعتبارات سياسية داخلية ربما تفسر جزئيا أيضا موقف الحكومة الإسبانية القوي في مناهضة إسرائيل. يحظى حزب سانشيز، حزب العمال الاشتراكي الإسباني (PSOE) بدعم لا غنى عنه من حزب سومار وهو تحالف يساري تقدمي يضم الحزب الشيوعي الإسباني وأحزابًا تقدمية مختلفة وقد وضع الاعتراف بالدولة الفلسطينية شرطا للانضمام إلى الحكومة خلال مفاوضات تشكيل التحالف عام 2023.
تتعرض حكومة سانشيز كذلك إلى ضغط كبير من حلفائها البرلمانيين السابقين في حزب بوديموس إضافة إلى أحزاب “انفصالية” باسكية وكتالونية، وبعضها اتهم سانشيز صراحة بعدم تقديم الدعم الكافي لفلسطين وغزة. تدعم جميع هذه الأحزاب، بطرق ومستويات مختلفة، المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، وجميع النضالات من أجل إنهاء الاستعمار.
على سبيل المثال، في حين تردد بيدرو سانشيز طويلا في وصف ما يجري في غزة بـ”الإبادة الجماعية” (قبل أن يفعل ذلك في وقت سابق من سبتمبر/أيلول الحالي) فإن حزب سومار استخدم المصطلح منذ فترة طويلة وطالب الحكومة بتبنّيه علنا.
وأكثر من ذلك، يطالب سومار (ومعه حزب بوديموس أيضا) بأن تقطع إسبانيا علاقتها الكاملة مع إسرائيل وهو ما يرفضه حزب سانشيز الذي برر ذلك بأن تلك الخطوة ستكون لها نتائج عكسية وضارة بفلسطين لأن إسبانيا تدعم حل الدولتين وتسعى إلى المساهمة في حل النزاع وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال القطيعة الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل.
على الجانب المقابل، تصعد المعارضة اليمينية ممثلة في الحزب الشعبي اليميني بقيادة ألبرتو نونييس فيخو وحزب فوكس اليميني المتطرف بقيادة سانتياو أباسكال انتقاداتها لسانشيز وحكومته بدعوى “فشلها في التعامل مع الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل” بل وتشجيعها أحيانا ما “يسبب إحراجا لإسبانيا على مستوى العالم” حسب قولهم.
وهكذا يجد رئيس الوزراء نفسه محاصرا بين مطالبات جماهيرية وسياسية يسارية بالمزيد من الدعم للفلسطينيين والمزيد من النبذ للاحتلال الإسرائيلي وبين ضغوط اليمين الكلاسيكي الأكثر انحيازا إلى إسرائيل.
تحد هذه القيود الداخلية من قدرة الحكومة الإسبانية على تقديم المزيد من الدعم للفلسطينيين، لكن تبقى الضغوط الخارجية هي الأهم والأكثر فعالية حيث يعترف بيدرو وحكومته بمحدودية قدرة إسبانيا على التأثير في مسار الحرب مقارنة بالولايات المتحدة على سبيل المثال.
وقد وجهت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مؤخرا في رسالة إلى رويترز انتقادات إلى الحكومة الإسبانية قائلة: “من المقلق جدا أن تختار إسبانيا، عضو حلف شمال الأطلسي فرض قيود على العمليات الأمريكية وتتخلى عن إسرائيل” معتبرة هذا الموقف “تشجيعا للإرهابيين” بحسب وصفها.
جدير بالذكر أن الولايات المتحدة تمتلك قاعدتين عسكريتين في إسبانيا: القاعدة البحرية “روتا” التي تعد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إسبانيا وأهم قاعدة بحرية في أوروبا، إضافة إلى قاعدة مورون الجوية.
وفوق ذلك، يجادل خبراء ومحللون في مدريد نفسها بأن الحكومة لن تكون قادرة على الوفاء تماما بتعهداتها بشأن قطع التعاون العسكري مع إسرائيل.
ووفق تقرير لصحيفة إلموندو الإسبانية فإنه على الرغم من تأكيد الحكومة على عدم شراء أسلحة من إسرائيل منذ اندلاع الصراع في غزة، فقد اقتنت إسبانيا منذ ذلك الوقت مواد دفاع وأمن من شركات إسرائيلية بقيمة تزيد على مليار يورو عبر 46 عقدًا مبرمًا منذ أكتوبر/تشرين 2023، بحسب تحليل أجراه “مركز ديلاس لدراسات السلام” استنادا إلى بيانات العقود الحكومية (رغم أن بعض هذه العقود لم يفعّل بعد وتقول الحكومة إنها ألغيت أو في طريقها للإلغاء).
وكذلك ترتبط إسبانيا وإسرائيل باتفاقية منذ 2011 في مجال الاستخبارات خاصة بـ”حماية المعلومات السرية” بين البلدين.
ويرتبط مركز الاستخبارات الوطني في إسبانيا (CNI) وجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) بعلاقات قوية تشمل تبادلا معلوماتيا، واتفاقات تعاون تكنولوجي، أشهرها حول نظام بيغاسوس الإسرائيلي الذي استخدم في التجسس على هواتف سياسيين إسبانيين منهم بيدرو سانشيز نفسه وعدد كبير من المسؤولين والنشطاء المطالبين بالانفصال في إقليم كاتالونيا.
كما ترتبط شركات الدفاع الإسبانية بعلاقات قوية مع نظيرتها الإسرائيلية يجعل من الصعب “تحرير” العلاقات الدفاعية والعسكرية بين البلدين حتى وإن جرى إلغاء بعض العقود الدفاعية. لا يعني ذلك أن إسبانيا غير جادة في معاقبة إسرائيل لكنه يشير ببساطة إلى حجم قدرة دولة منفردة وبعيدة جغرافيا عن مسرح الصراع على إحداث تأثير فعلي مهما كانت راغبة في ذلك.
صحيح أن مدريد هي إحدى أهم القوى الاقتصادية في أوروبا، لكنها تظل مع ذلك فاعلا محدود التأثير على الساحة الدولية. الأمر إذن هو -كما قال سانشيز- أن هناك قضايا تستحق النضال من أجلها، ولو لم يكن الفوز بها في المتسع.