يُعدّ التراث النحوي العربي من أبرز منجزات الحضارة الإسلامية في مجال المعرفة، إذ قدّم النحاة العرب تصوّرات معمّقة حول بنية اللغة وآليات اشتغالها. ولا يزال هذا التراث يثير اهتمام الباحثين في الدراسات اللسانية المعاصرة. إلا أن تناوله غالباً ما يتم إما بروح تمجيدية تُغفل أبعاده المعرفية، أو بنقد يستند إلى نماذج تفسيرية مستوردة، مما يؤدي إلى اختزاله أو إساءة فهمه.
في هذا السياق، يبرز كتاب “مقومات النظرية اللغوية” للدكتور رمزي منير بعلبكي كمحاولة رصينة لإعادة قراءة هذا التراث من الداخل، بوصفه نظرية لغوية متكاملة، لا مجرد مجموعة من القواعد المجتزأة. فالكتاب، الصادر عن دار النشر في الجامعة الأميركية في بيروت ضمن سلسلة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يمثل إسهامًا معرفيًا نوعيًا يهدف إلى إعادة الاعتبار للنظرية اللغوية العربية من خلال تحليل مفاهيمها الكبرى، وقراءة أنساقها المنهجية في ضوء رؤية تحليلية دقيقة تتجنب الإسقاط وتستنطق النصوص من داخلها.
المؤلف وسياق الكتاب
الدكتور رمزي منير بعلبكي هو أكاديمي لبناني حاصل على الدكتوراه في النحو العربي وعلم الساميات المقارن من جامعة لندن، ونال جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب عام 2010. يشغل حاليًا رئاسة دائرة اللغة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد عمل أستاذًا زائرًا في جامعات كامبردج وشيكاغو، وأستاذًا مقيمًا في جامعة جورج تاون، كما يرأس المجمع العلمي لمعجم الدوحة التاريخي.
يقع الكتاب في 415 صفحة موزعة على سبعة فصول، يعالج فيها النظرية النحوية العربية من حيث شمولها وتماسكها.
دعائم النظرية النحوية
ينطلق المؤلف من فرضية مركزية مفادها أن النحو العربي ليس مجرد رصد عشوائي لظواهر لغوية، بل هو مشروع علمي منظم، تشكّل من خلال جهود تراكمية واعية لبناء تصور شامل لطبيعة اللغة وعملها. ويرى أن هذه النظرية، رغم أنها لم تُدوَّن ككيان متكامل صراحة، إلا أنها قائمة في الممارسة النحوية والمعجمية.
يعتمد بعلبكي في قراءته على خمسة مفاهيم رئيسة تشكل أعمدة النظرية النحوية:
-
العمل
هو المفهوم المحوري في التحليل النحوي، ويشير إلى التأثير الذي يولده العنصر النحوي في غيره ضمن التركيب، مفضيًا إلى الأحكام الإعرابية. يقدّم بعلبكي رؤية وظيفية للعمل، بوصفه تفاعلاً دقيقاً بين مكونات الجملة. -
القياس
لا يراه مجرد أداة لتوليد القواعد، بل آلية عقلية تنطلق من الاستقراء، تهدف إلى تحقيق الانسجام مع النظام الكلي للغة. ويقارن بين المنهج التراثي في القياس والمنهج اللساني الحديث، مبرزًا نقاط الالتقاء والافتراق. -
التقدير
يمثل حلاً معرفيًا حين لا يظهر العنصر النحوي صراحة في الجملة، ويعكس فهماً عميقًا للبنية الكامنة وراء التراكيب الظاهرة، بما يشبه مقولات البنية العميقة في اللسانيات الحديثة. -
التعليل
ليس مبررًا شكليًا، بل أداة لفهم الترابط المنطقي بين الظواهر اللغوية. يكشف المؤلف عن المنهجية التي اعتمدها النحاة في تفسير الظواهر وربطها بأسبابها. -
الأصل
ويقصد به المرجعية الثابتة التي يتم القياس عليها أو العودة إليها، ويعكس فكرة استقرار النظام اللغوي في ذهن النحاة.
تحليل بنية النحو العربي
يتميّز المؤلف بمنهجية تحليلية دقيقة، تنطلق من داخل النصوص التراثية بعيدًا عن الإسقاطات الخارجية، فيسير التحليل من المفهوم إلى الوظيفة، ومن النص إلى الفرضية. ويبرز في هذا السياق وعيٌ منهجي يُميّز الكتاب عن غيره من الأعمال التي إما مجّدت التراث أو أنكرت عليه صلاحيته.
يُظهر بعلبكي كيف أن النحو العربي بُني وفق تصورات معينة عن اللغة، نشأت في بيئة شفهية، وشُذبت بالاستناد إلى روايات موثوقة، ما أتاح بناء نظرية لغوية تستند إلى المعنى، لا إلى الشكل فقط. ويفصّل في طريقة النحاة في معالجة الشذوذ اللغوي ضمن منطق نسقي يوازن بين القاعدة والاستعمال.
نحو مشروع لغوي متكامل
يقدّم الكتاب رؤية متسقة لكيفية نشوء القواعد النحوية، مؤكدًا أنها لم تكن عشوائية، بل نتيجة لحاجة تفسيرية ترتبط بمستويات مختلفة من التحليل، سواء أكان صوتيًا أو صرفيًا أو دلاليًا. ويولي عناية خاصة للعلاقة بين اللفظ والمعنى، ويحلل أثر الرواية الشفهية على صياغة قواعد الفصاحة.
أحد أبرز ما يميز هذا العمل هو وعيه بالعلاقة بين التراث اللغوي واللسانيات الحديثة، إذ لا يفرض مناهج معاصرة على التراث قسرًا، ولا يفصله عنه كليًا، بل يُجري مقارنات دقيقة تُظهر عمق الفكر النحوي العربي وأصالته.
خاتمة
يمثل كتاب “مقومات النظرية اللغوية” للدكتور رمزي منير بعلبكي إسهامًا متميزًا في إعادة الاعتبار للفكر النحوي العربي بوصفه مشروعًا معرفيًا متكاملًا. ويُنتظر أن يفتح آفاقًا جديدة في قراءة التراث واستثماره في بناء نظرية لغوية عربية معاصرة تنطلق من أصولها وتتفاعل مع منجزات اللسانيات الحديثة.